يشهد الاقتصاد المغربي مؤخرًا تحولًا عميقًا في نمط الريع، من الامتيازات الكلاسيكية المباشرة إلى نماذج جديدة تتجسد في تغوّل شركات كبرى مقربة من دوائر القرار. هذا التحول لا يعني نهاية اقتصاد الريع بقدر ما يمثل إعادة إنتاجه في قالب أكثر تعقيدًا وتحصينًا، حيث تحل لغة السوق والمشاريع الكبرى محل الرخص والامتيازات القديمة، دون أن يتغير جوهر الامتياز، أي احتكار الثروة والفرص.
في مقدمة هذه الشركات تبرز إمبراطورية “أفريقيا غاز”، التي تهيمن على قطاع المحروقات في المغرب، وتمتلك حصة الأسد من سوق التوزيع. هذه الهيمنة لا تقتصر فقط على السوق بل تمتد إلى مفاصل القرار الاقتصادي والسياسي، بحكم أن مالكها هو رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، ما يجعل الفصل بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي أمرًا شبه مستحيل. ولا يقف الأمر عند المحروقات، بل يتعداه إلى مشاريع استراتيجية كبرى، مثل فوز شركة تابعة له بصفقة تحلية مياه البحر، وهي من أكبر وأغلى المشاريع الحيوية بالمملكة، في وقت يثار فيه جدل واسع حول تضارب المصالح واستعمال الموقع السياسي لتعزيز المصالح الخاصة.
في مجال الصفقات العمومية، يستمر الإشكال القديم بثوب جديد. فعلى الرغم من وجود مرسوم ينص على تخصيص نسبة من الصفقات للمقاولات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن هذه الأخيرة تجد نفسها مقصية فعليًا من المنافسة. تُطرح الصفقات بشروط تصنيف معقدة أو بمبالغ ضخمة لا يمكن للمقاولات الصغرى مجاراتها، ما يفتح الباب أمام شركات بعينها لتستحوذ على الجزء الأكبر من كعكة الاستثمار العمومي. ويكفي أن نعلم أن قطاع البناء وحده ينتظر أن يشهد في 2025 استثمارات عمومية بقيمة 64 مليار درهم، معظمها موجه لمشاريع ضخمة تسند غالبًا لنفس الأسماء المعروفة.
أما في العقار، فالصورة لا تقل قتامة. الشركات الكبرى، المتصلة مباشرة بمراكز النفوذ، تسيطر على المشاريع العقارية الموجهة للطبقة المتوسطة، وتحدد الأسعار بمعزل عن آليات العرض والطلب الحقيقية. هذا الوضع ساهم في نفخ الأسعار وأقصى آلاف الأسر من حلم امتلاك السكن، في ظل غياب سياسة سكنية عادلة وشجاعة.
إن ما نعيشه اليوم ليس نهاية الريع، بل انتقاله إلى مرحلة أكثر هيمنة وتحصينًا. الفرق أن أدواته تغيرت، ولم تعد مرتبطة برخص الصيد أو النقل، بل صارت تتخفى وراء شعارات “النجاعة” و”الحكامة” و”جاذبية الاستثمار”. والمفارقة أن الخطاب الرسمي يروج للشفافية والمنافسة، في حين أن الواقع يشير إلى تكريس الامتيازات داخل دوائر مغلقة.
إذا كانت هناك إرادة حقيقية لإصلاح اقتصادي، فإن أول خطوة تبدأ بتفكيك هذا النظام غير المعلن من الامتيازات الجديدة، ووضع حدود واضحة بين السلطة والثروة، وإعادة الاعتبار لمبدأ تكافؤ الفرص، حتى لا يتحول الاقتصاد المغربي إلى مجرد ملعب خاص مفتوح أمام قلة قليلة، ومغلق في وجه الأغلبية الساحقة.