الحدث بريس: محمد المهدي
ربما شكلت جائحة كورونا العامل الأساس الذي سرّع بعملية تنزيل ما يسمى بالتعليم عن بعد في إطار الاستمرارية البيداغوجية ، فكان هذا التحول الاضطراري ملزما للحكومة المغربية ما دامت هي التي دافعت عنه و حاربت من أجل التصديق عليه و إقراره في القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية و التكوين والبحث العلمي ، ولم يأت هذا التسريع كخيار استراتيجي يندرج في إطار التنزيل التدريجي لمختلف نقط المادة 33 من القانون الإطار 51.17 الخاص بإصلاح المنظومة .. وبالتالي هذا ما يبرر الارتباك الحاصل لدى الوزارة في تنزيل آلية التعليم عن بعد كبديل عن التعليم الحضوري في هذه الظرفية الخاصة، رغم أن المادة 33 لا تربط تنزيله بظرفية طارئة أو جائحة معينة، بل يندرج ضمن عدد من النقط السابقة و اللاحقة ، التي تشكل مجتمعة برنامجا عمليا و حزمة من الآليات المستمرة و المترابطة، و هي كالتالي كما وردت في القانون الإطار(1):
– تعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في النهوض بجودة التعلمات وتحسين مردوديتها.
– إحداث مختبرات للابتكار وإنتاج الموارد الرقمية و تكوین مختصین في ھذا المجال .
– تنمیة وتطویر التعلم عن بعد، باعتباره مكملا للتعلم الحضوري.
– تنويع أساليب التكوين والدعم الموازية للتربية المدرسية والمساعدة لها.
– إدماج التعليم الإلكتروني تدريجيا في أفق تعميمه.
يبدو للوهلة الأولى أن تنزيل آلية التعليم عن بعد جاء في سياق عام يشترط توفر مجموعة من الآليات التي يمكن أن تجعل منه ناجحا و أكثر نجاعة و فعالية، كما أنه لن يشكل أبدا بديلا عن التعليم الحضوري، بل هو في أحسن الأحوال لا يعدو أن يكون مُكمــلا و داعما له.
فهل توفرت آليات تنزيل التعليم عن بعد بالشكل الذي تطرحه الدولة، وهل توفرت له الآليات اللوجستية والبيداغوجية اللازمة من أجل إنجاحه و تحقيق جزء من أهدافه، وهل بالفعل تمكنت جميع الفئات العمرية و الاجتماعية من الاستفادة منه في إطار يسعي نحو تحقيق مبدأ الإنصاف و تكافؤ الفرص الذي نصت عليه المادة 2 من القانون الإطار المذكور أعلاه..؟؟ (2) .
نحن لسنا مخولين هنا بالإجابة عن هذه التساؤلات الطارئة و المشروعة، لكن، ستنبثق الإجابة عنها حتما من خلال التجربة الميدانية التي سعت و تسعى مختلف مكونات الجسم التربوي للانخراط فيها بكل روح وطنية صادقة ،بدء من الأستاذ و انتهاء بالقائمين على الشأن التربوي بالوزارة.. إلا أننا نسعى من خلال هذه السطور أن نقف عند بعض الجوانب السيكولوجية و الوجدانية الناتجة عن عملية التعلم عن بعد. ذلك أنه أيا كانت الخطوات التي اعتمدتها الدوائر التربوية و المؤسسات التعليمية لتَبَنّـي الوسيط التكنولوجي بمختلف منصاته، إلا أنه كان لعنصر المفاجئة و المباغتة و التسرع في التطبيق مجموعة من الانعكاسات النفسية و السيكولوجية على نفوس المتمدرسين الذين كانوا يرتادون المدارس يوميا ، ويتفاعلون مع زملائهم و يُكَوِّنون صداقات و ينسجون علاقات..(يتنافسون، يقلدون، يحاكون، يبدعون، ينجحون و يخفقون) في سياقات اجتماعية و وجدانية مختلفة و متوازية ، وكل هذا داخل المجتمع المدرسي الصغير بكل أبعاده..مجتمع يحكمه عدد من القيم التي تحكم المجتمع الكبير الذي يحتضن المدرسة. وبالتالي، فمن غير المعقول الادعاء أن الغياب المكاني للمدرسة لا يؤثر في الجانب السيكولوجي و التوازن الوجداني للمتعلمين، و إلا فإن القول بأن المدرسة لم تكن قائمة بدورها سيكتسب مصداقية أكثر، و هذا غير صحيح، و ما لا نقبله بشكل قطعي..!! و هذا التأثير السلبي سيبقى قائما ما لم تأخذه الجهات المعنية على محمل الجد.
لقد دفعت جائحة فيروس كورونا المستجد بالتعليم عن بعد إلى الواجهة في ظرف لم يكن أي من المشتغلين في القطاع يتوقع ذلك، فَغَـدا خِيارا لا بديل عنه، سواء توفرت البُنى التحية و الوسائل اللوجستية له أم لم تتوفر .. مما خلق نوعا من الارتباك المنهجي و البيداغوجي لذى مختلف الأطراف المعنية بتوفير الموارد الرقمية، موارد لم تكن لتفي بالغرض الكلي للعملية التعليمية التعلمية التي تستهدف عدة مستويات(السمعي، البصري، الحركي، الوجداني، التفاعلي)،مما أفضى إلى غياب العلاقة الإنسانية و الوجدانية بين الأستاذ و المتعلم، الأمر الذي سيؤثر على إنسانية التربية -باعتبارها فعلا إنسانيا تفاعليا- من خلال فَرض عَمودية العلاقة التواصلية، و التزام المتعلم بحرفية التعليمات الموجهة إليه.
صحيح أن تفعيل مضمون المادة 33 من القانون الإطار 51.17 الخاص بمنظومة التربية و التكوين و البحث العلمي قد أَمْلَتْه ظرفية طارئة وغير متوقعة، لكن من الأفضل أن نجعلها مناسبة مواتية من أجل الاهتمام أكثر بالمستويات الثقافية و الاجتماعية للفئات المستهدفة، و أخذها بعين الاعتبار عند وضع التصورات المستقبلية للتنزيل الأمثل و الأنجع لمختلف خطاطات الإصلاح التربوي ببلادنا، في أفق تقليص الفوارق المجالية و الاهتمام أكثر بالفئات الأكثر هشاشة، و خاصة بالعالم القروي و شبه الحضري. فقد أظهرت التجربة أن هناك تفاوتا هائلا في الموارد البشرية و اللوجستية سواء من حيث النوع أو من حيث الكم بين مختلف الجهات، وداخل الجهات نفسها، بل وبين الفئات الاجتماعية أيضا، فقد كشفت الأزمة عن عمق المشكلات لدى الأسر و أولياء الأمور، وعلى الخصوص من ناحية الوعي والايمان بجدوى هذا النوع من التعليم.. نقصد التعليم عن بعد. فقد أشارت بعض الدراسات أن ما يفوق 40% من المتعلمين لا يملكون مقومات التعليم الافتراضي المادية، وبالنتيجة سيجعلنا هذا نسير نحو تكريس تعليم نخبوي مرتبط بمدى توفر التكنلوجيا و مدى التحكم فيها، بل ومدى درجة اقتناع الناس بجدواها أصلا..!!
إن الصعوبات التي قد يعاني منها المتعلم ليست مرتبطة بمستوى التربية بقدر ارتباطها بالضغط السيكولوجي و القلق النفسي الناجم عن قلة الإمكانات المادية، وتَدني مستوى البنية التحتية للاتصالات و شبكة الأنترنيت، ناهيك عن ارتفاع مستوى الأمية الالكترونية في مجال استخدام التطبيقات الالكترونية البسيطة لدى أغلب المتعلمين و الأسر. مما يفرض على الجميع الخروج من دائرة المصلحة المؤسسية إلى الدائرة الانسانية، و الموازنة بين الكم و النوع لمحتوى التعليم بما يتناسب و الامكانات المادية و الثقافية و التكنلوجية لأطراف العملية التعلمية. و لن يتحقق هذا إلا بالتحلل من ِرداء التَّجَمُّل و الدِّعاية الاعلامية إلى دائرة المواجهة و المصارحة و الاعتراف بالتقصير في مجال التربية و التعليم من أجل تضييق الفجوة التقنية و المنهجية الحاصلة منذ زمن غير قريب. لذلك فالأمر يتطلب تقييم و مراجعة شاملة لمحتوى البرامج و آليات التقييم و التوجيه، و تسريع برامج تكوين هيئة التدريس في مجال التكنولوجيا المعلوماتية من أجل تيسير استخدام التطبيقات الخاصة بالوزارة و اكتساب المهارات الأساسية لاستعمال الأجهزة الرقمية على الوجه الأكثر نجاعة و مردودية.
إن ما يجري اليوم، سيُغَير من دون شك وجه التعليم، ويُعيد إلى الواجهة كل دعوات الإصلاح و إعادة تقييم المراحل السابقة لما قبل كورونا، كما يفرض إعادة فتح الملفات العالقة بين الوزارة كطرف وصِـي و بين الفرقاء الاجتماعيين بخصوص الجوانب البشرية و المادية لهيئة التربية التعليم، و تحسين أوضاعها و ظروف عملها بما يتناسب مع قيمتها الاعتبارية داخل المجتمع، لأنها هي المعول عليه في تنزيل و إنجاح كل برامج التطوير و التمكين التكنولوجي و البيداغوجي، مما يستدعي بالضرورة وضع رؤية استراتيجية شاملة لمنظومتنا التعليمية بشِقيها الحضوري و الافتراضي معا، لتكون مُستعدة للوقوف أمام أي جائحة مستقبلية بشكل فعال.
أما إن ظلت هذه البرامج حبيسة الرفوف ومكاتب الوزارة، و ظل الاهتمام بالتعليم ظرفيـا مزاجيا، مقابل الإصرار على خوصصة القطاع و الاستثمار في البنايات و المساحات الخضراء على حساب المتعلم و الأستاذ ، فستكون المدرسة معولا لهدم ما تبقى من الإنسان، و ليس مَشْتَـلا لاسْتِنبات الكفاءات و الطاقات.
ممتاز