حسب الجماهير البيضاوية ، لم تكن دعوات مقاطعة الديربي البيضاوي بين الرجاء والوداد مجرد رد فعل عاطفي عابر، بل جاءت كتجسيد واعٍ ومؤطر لحالة من الغليان الجماهيري التي نضجت عبر موسم مليء بالإقصاء والتضييق. في حدث غير مسبوق، أعلنت فصائل “الوينرز”، “غرين بويز” و”إيغلز” مقاطعتها للديربي، احتجاجاً على ما اعتبرته استهدافاً ممنهجاً لفريقي العاصمة الاقتصادية، في خطوة بدت وكأنها الفصل الأحدث في صراع طويل بين الجماهير والمؤسسات الوصية على الكرة المغربية.
أكثر من سنة ونصف من غلق مركب محمد الخامس بدعوى الإصلاحات، تركت أثرها العميق على توازن المنافسة في البطولة الاحترافية. الرجاء والوداد، اللذان اعتادا على الدعم الجماهيري الكاسح، وجدا نفسيهما يتنقلان بين ملاعب بلا هوية، حُرما من جمهورهما ومن هوية “الميدان”، ليتأثر الأداء الفني، وتترسّخ قناعة وسط جماهيرهما بأن الغياب ليس صدفة، بل نتاج قرارات غير بريئة.
قرارات التأديب المتكررة، منع التنقلات، حرمان من التيفوهات، وتضييق متزايد على الفصائل، كلها عناصر غذّت هذا الاحتقان، وزادت من قناعة الجماهير بأن حضورها لم يعد مرغوباً فيه إلا عندما تُلتقط الكاميرات وتُزيّن المدرجات لتسويق صور احتفالية مناسباتية.
الديربي، الذي كان يُختزل في لوحات بصرية خلّاقة وأهازيج تخترق الشاشات، مهدد اليوم بأن يُقام وسط مدرجات فارغة. ورغم محاولات السلطة في الدار البيضاء لإنقاذ الموقف فإن القرار الجماهيري يبدو صلباً، صامداً، وذا بعد رمزي يتجاوز حسابات مباراة في الدوري.
المقاطعة هنا ليست انسحاباً، بل فعل احتجاج جماعي راقٍ، فيه من النضج أكثر مما فيه من التمرّد. إنه ردٌّ مباشر على عقلية تتعامل مع الجمهور ككومبارس ظرفي، لا كشريك أساسي في صناعة كرة القدم.
من الناحية الرياضية، لا يمكن تجاهل أن غياب الجمهور أثر بوضوح على نتائج الرجاء والوداد، خاصة في المباريات الكبرى، حيث لطالما كان الجمهور هو اللاعب رقم 12. تراجع النتائج ساهم في تعزيز فرص أندية أخرى مثل نهضة بركان، التي بدت أكثر استفادة من هذه “الفوضى الصامتة”، لتتحوّل إلى منافس شرس على اللقب وسط بيئة أكثر استقراراً.
الحديث هنا لا يمسّ بأحقية بركان في المنافسة، لكنه يسلّط الضوء على غياب تكافؤ الفرص، حين تُقصى الفرق الكبرى من امتيازات ظلت جزءاً من معادلة التوازن لعقود.
مع اقتراب تنظيم كأس أمم إفريقيا 2025، تُدرك الدولة المغربية أن صورتها الرياضية في الميزان. وبدلاً من أن تكون عودة “دونور” مناسبة للاحتفال، جاءت خطوة المقاطعة لتُربك الحسابات وتُجبر السلطات على التحرك، في محاولة متأخرة لإطفاء نار صامتة اشتعلت منذ بداية الموسم.
لكن السؤال العميق الذي يطرحه هذا المشهد: هل يمكن فعلاً فرض حضور جماهيري دون معالجة الأسباب الجذرية لغيابه؟ وهل يمكن إنجاح تظاهرات قارية دون احترام الجماهير التي صنعت مجد اللعبة محلياً؟
“نحن لسنا أدوات زينة ولا جمهور صور، نحن روح الكرة المغربية” – رسالة واضحة حملتها منشورات الإلترات ورفعت راية الرفض في وجه التهميش. ولعل المفارقة أن هذا الرفض قد يوحّد جماهير الرجاء والوداد، الخصمين الأزليين، خلف قضية واحدة. وهو توحّد نادر، لكن حين يحصل، يحمل في طيّاته تحوّلاً فارقاً في علاقة الجمهور بالمؤسسات.
ما يحدث اليوم ليس مجرد احتجاج على غلق ملعب، بل هو لحظة مراجعة كبرى في علاقة الجمهور المغربي بكرة القدم. وإذا لم تُقرأ الرسائل جيداً، فقد يتحوّل الصمت في المدرجات إلى أزمة ثقة مستدامة، تفرغ البطولة من معناها، وتُشوّه الصورة التي طالما افتخر بها المغرب في المحافل القارية والدولية.
الكرة في ملعب المسؤولين الآن… فهل يلتقطون الإشارة.