في الوقت الذي تحقق فيه الرياضة المغربية إشعاعاً دولياً متزايداً، تظل القاعدة الجماهيرية المحلية تعاني من التقلص والبرود، وكأن هناك فجوة صامتة بين الإنجازات الرسمية والانخراط الشعبي الحقيقي. لا يتعلق الأمر فقط بعدد المتابعين أو الحضور في الملاعب، بل بمستوى الارتباط العاطفي والوجداني للمغاربة مع الرياضة كمجال جامع وحي، لا مجرد فرجة ظرفية عند كل إنجاز خارجي.
كرة القدم، باعتبارها الرياضة الأولى في البلاد، لا تشذ عن هذه المفارقة. ففي الوقت الذي تشهد فيه بعض المباريات الكبرى اكتظاظاً جماهيرياً، تعرف مقابلات أخرى عزوفاً لافتاً، حتى في المدن التي تعتبر تقليدياً معاقل كروية. الأمر لا يرتبط بجودة اللعب فقط، بل بمنظومة أوسع تعاني من أعطاب مزمنة: بنية تحتية غير محفزة، ضعف في التسويق والترويج، غياب الشفافية في التسيير، وشعور عام لدى الجمهور بأن اللعبة تُدار بمنطق بعيد عن روح الرياضة كمجال مشترك.
هذا الانفصال لا يقتصر على كرة القدم وحدها. الرياضات الأخرى، الأكثر تهميشاً إعلامياً وتنظيمياً، تجد نفسها في عزلة مضاعفة. غياب التغطية، ضعف التكوين، وعدم وجود رموز قادرة على إلهام الأجيال، كلها عوامل تسهم في عزوف الشباب عن المتابعة أو الانخراط. وقد باتت الرياضة، في نظر كثيرين، مجالاً نخبويًّا أو تجارياً، لا يمثلهم ولا يعكس تطلعاتهم.
لكن الأهم من كل ذلك هو الدور الذي لم تقم به المدرسة والحي، كمؤسستين كانتا في السابق خزّانين للطاقة الرياضية والاجتماعية. لم تعد الرياضة حاضرة في وجدان التلميذ المغربي، وغابت ملاعب الأحياء التي كانت تخرّج أجيالاً كاملة من الموهوبين. في غياب هذه البيئات التكوينية، يصبح من الطبيعي أن يبحث الشباب عن بدائل رقمية، فردية، واستهلاكية، تبتعد عن الرياضة كممارسة جماعية وبناء للقيم.
رغم هذا الواقع، تظل هناك طاقة حقيقية تختزنها الجماهير، وخصوصاً من خلال مجموعات الألتراس التي أثبتت، داخل الملاعب وخارجها، أنها ليست فقط جموعاً من المتفرجين، بل كيانات تنظيمية، واعية، وذات رسالة. شعاراتها، مبادراتها الاجتماعية، قدرتها على الحشد والانضباط، كلها تعكس نوعاً من النضج الجماعي الذي يندر أن نجده في فضاءات أخرى. غير أن هذا الوعي يصطدم بجدار من الخوف المؤسسي، حيث ما تزال الدولة، على العموم، تنظر إلى الألتراس بعين الشك، وتتعامل معها كقوة مزعجة أكثر منها شريكاً ممكناً.
الإشكال هنا لا يكمن في الجماهير، بل في غياب إرادة حقيقية للاستماع، ولتحويل هذه الطاقة من التعبير الاحتجاجي إلى شراكة بناءة. كثير من الشباب مستعد للانخراط، للمساهمة، بل وحتى للقيادة، لكن بشرط أن يُحترم حسه، ويُؤمَن بذكائه، وتُفتح أمامه قنوات شفافة للمشاركة. ما يحتاجه هذا الجيل ليس دروساً في المواطنة، بل مساحات لممارستها فعلياً.
كل محاولة لبناء قاعدة جماهيرية حقيقية في المغرب، لا يمكن أن تنجح ما دامت تهمّش الفاعل الأساسي: الجمهور نفسه. ولا جمهور بدون ثقة. ولا ثقة بدون مؤسسات تحترم قواعد اللعبة، لا فقط داخل الملعب، بل في كل ما يحيط به. هذه ليست أزمة رياضة فقط، بل أزمة ثقافة، حان الوقت لفتح نقاش وطني جدي بشأنها.