قبل سنوات، كانت المناداة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المغرب، مطلبا شعبيا، تجسد ذلك من خلال حركة 20 فبراير والحركات النقابية التي آزرت الحركة، علاوة على الحركات النقابية في مختلف القطاعات العمالية وتقديم الملفات المطلبية المتعددة للجهات المعنية، خصوصا، حكومتا ابن كيران وسعد الدين العثماني.
هذه المطالب التي توجت ببلورة نسخة أولية من النموذج التنموي الجديد للمملكة في عهد حكومة سعد الدين العثماني التي قوبلت بالرفض من طرف رئيس البلاد، ليكلف بهذا الملف الحساس مستشاره شكيب بن موسى، هذا الأخير الذي اعتمد مقاربة تشاركية لبلورة هذه الوثيقة المهمة على مستوى رسم معالم مستقبل المغرب وتجسيد جيل جديد من الإصلاح، بفضل إشراكه لجميع الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجميع الفئات العمرية ناهيك عن اعتماده لمقاربة النوع الاجتماعي.
ليتم أخيرا إخراج هذه الوثيقة المهمة التي عرضت أمام أنظار الملك، والتي اعتمدتها الحكومة الجديدة برئاسة عزيز أخنوش كوثيقة مرجعية لتسطير برنامجها الحكومي.
ومن بين الملفات الاجتماعية التي تتضمنها الوثيقة، الاهتمام بالإنسان، الرأسمال اللامادي للبلاد، من خلال تكوينه وحمايته اجتماعيا بكل ما يتضمنه هذا المفهوم الواسع من رعاية صحية وتأمين وتغطية صحية وضمان اجتماعي… وضمان تكافؤ الفرص بين الجميع وتيسير ولوج الخدمات العمومية وفق مقاربة تقضي بالقضاء على الفوارق الاجتماعية والمجالية، انسجاما مع روح الدستور الجديد للمملكة الذي ينص على حق الإنسان المغربي في العيش الكريم دون تمييز، وحق كل جهات المملكة وأقاليمها وجماعاتها في الاستفادة من خدمات الدولة دون إقصاء أو تهميش.
إلا أن تنزيل مقتضيات هذا الورش الإصلاحي الكبير، يرجع بالأساس إلى المواطنين أنفسهم في إطار اللامركزية الترابية التي تنهجها الدولة كمقاربة إدارية ديموقراطية في التدبير الإداري والترابي، والحس الوطني الذي ينبغي أن يكون متأصلا ومتجدرا في الشباب المغربي الذي يعول عليه لأخذ مشعل التنمية وقيادتها.
وفي إطار مقاربة هذا الموضوع مع واقع الحال، وبناء على بعض الإحصائيات التي تروج حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي، حول نتائج مباريات الأطباء العامين لولوج الوظيفة العمومية أكتوبر 2021، يتبين أن تكريس تعميق الإقصاء والتهميش وتوسيع الفوارق الاجتماعية بين جميع فئات المجتمع، لا تتحمله الدولة لوحدها، بل إن الشباب الذين ما فتئوا ينادون بالشغل، هم أيضا يكرسون ما نناضل من أجله.
فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن عدد المناصب المفتوحة للأطباء في إطار التشغيل بجهة الرباط سلا القنيطرة هو 10، تقدم للمباراة 20 ونجح منهم العدد المطلوب 10.
يتكرر نفس الشيء بالنسبة لجهة طنجة تطوان الحسيمة حيث أن عدد المناصب المفتوحة هو 18 تقدم للترشيح 17 وفاز منهم 17.
بينما في جهة درعة تافيلالت، فالخصاص إلى هذه الفئة حدد في 25 ولم يتقدم للترشيح سوى اثنين، فازا بطبيعة الحال في المباراة.
وتتكرر نفس المعطيات والملاحظة بالنسبة لجهات الداخلة واد الذهب العيون الساقية الحمراء وكلميم واد نون.
من خلال هذه المعطيات الصادمة، يتبين أن المفهوم القديم الذي ورثناه من الاستعمار الغاشم والذي يقضي بفكرة المغرب النافع وغير النافع لا زال أبناؤه يجسدونه من خلال المثال السابق.
كما يدعونا نفس المثال لنتساءل عن حظ هذه الجهات المقصية من التنمية، وعن الحس الوطني لشريحة الشباب الذي ينتظر منهم التطوع ونكران الذات للنهوض بهذه المناطق الهامشية مناطق المغرب العميق.
ونتساءل أيضا عن موقف الدولة تجاه هذا العبث، وعن عجزها عن سن قوانين صارمة تقضي بإجبارية العمل في أي جماعة من الجماعات الترابية التابعة للمملكة، اعتبارا لكون المغرب واحد وأن المواطن المغربي لا يقبل التفييء.
كما نتساءل عن الأموال العمومية التي تخصصها الدولة لتكوين هؤلاء، ليقابلوها برفض الالتحاق للعمل بالمناطق النائية أو عدم الترشح لشغل مناصب بها.
تلك أسئلة، لا يمكن لأي نموذج تنموي أن يتجسد على أرض الواقع إلا من خلال حس وطني يأخذ بعين الاعتبار مصلحة الوطن، وأن هذا الأخير كل لا يقبل التجزئ، علما أن التاريخ يحدثنا أن تلاميذ منطقة تافراوت الحدودية كان أبناؤها يستفيدون من التعليم العمومي إبان الاستعمار الفرنسي، حيث كان يتنقل المدرس على متن دابة أو على رجليه لمسافة تزيد عن ثمانين كيلومترا عن أقرب منطقة حضرية، لأداء واجبه الوطني.