يفاجئنا الإعلامي والكاتب عبد العزيز كوكاس في إصدار جديد خلال نهاية شهر رمضان عن دار منشورات النورس، تحت عنوان “رائحة الله”، بوجه شاعري، برغم عدم تأشير المبدع على جنس كتابه الجديد، الذي اكتفى بالتأشير عليه بعبارة ماكرة “شيء كالشعر”، بحجة أنه كما يقول في إداء ما خَطَّهُ يَراعُه إلى “أمي التي تشبهُ القصيدة، وأستحي من أن أسمِّيَ دونها شعرا…”، يقع ديوان “رائحة الله” في 124 صفحة تتوزعها حوالي 33 قصيدة، تكشف عن صوت شعري مليء بالتأمل الفلسفي الممزوج بغنائية رقراقة، وبلغة شعرية شفيفة تلمح وتشير أكثر مما تصرح، لأن الدال في ديوان “رائحة الله” يبتهج بفرح وغبطته الخاصة، يرسم لنفسه أفقا لا ينحصر عند قول المعنى بل يستكنه شعريته الخاصة.
يقول الشاعر عبد الرفيع جواهري في تقديم ديوان “رائحة الله”: “يسائل كوكاس اسمه والْتِبَاساته بقسوة وعناد: “يا اسمي، يا ظلي المتَلَبِسُ بي، كيف تكبر معي مثل جلدي؟”، وفي ومضه مباغتة يكشف الشاعر عن سِنِّه بخجل مُرٍّ: “خمسة عقودٍ ونيف وأنا أتدثر بإسمي. والأسماء هل تليق بنا أم نليق بها؟”
في أكثر من نص يحاور كوكاس ويجادل الأسماء: “أين ترحل الأسماء بعد فناء الأجسام فينا؟” ثم يصف الاسم بالنشيد الأول.. وبطراوة لغته الآسرة يفسح كوكاس المجال لحقول الذاكرة بالعودة إلى مقروءاته التي تنم عن سعة اطلاع، سواء في الأدب أو الفلسفة، من كوجيطو ديكارت و”الوجود والعدم” لجان بول سارتر الى “الشيخ والبحر” لهيمنجواي ومن نابوليون الى فان غوغ وبودلير وغير ذلك من الإحالات في خلطة إبداعية.
وخلاصة القول فإن قارئ “لو كان بالإمكان” سيستمتع بلذة القراءة مرددا في الختام: “آه لو كان بالإمكان ألاّ تكون لهذه السانفونية الشعرية نهاية”.
نقرأ ضمن هذه الأضمومة الشعرية الجديدة للشاعر عبد العزيز كوكاس قصائد موشومة ب: حنين الإينومائليش، لا تحزن، لو كان بالإمكان، تيه باريسي، انتشاء بلا رأس، وصايا الغمام، تراتيل لآخر العمر، التي مما ورد فيها:
لمَ يصلح خريف العمر؟
لنسيم سلام توقعه بلا أثر هزيمة مع الوجود
للبحث عن ضفاف جديدة
يتفجر من ينابيعها ماء المستحيل
فلا صحو أبدي.
*******
لمَ يصلح آخر هديل العمر؟
لتعتصر حليب الكلمات
وتعلم الأشياء الأسماء كلها
لتمنح كل هذا الامتلاء هبة للفراغ
كي تتسامق فيك الأناشيد..
*************
لمَ يليق آخر ما تبقى من نفَس؟
لامتلاك القدرة على التيه في بحر قلبك
ليهتز فيك نبض امرأة حائرة،
تنهض من غفوة الوقت وهي تلهث باسم فارسها الوحيد!
*******
لمَ يصلح آخر ما نعده قبل الرحيل؟
للقدرة على حمل ذاكرتك على قارب للنجاة
كي لا تلتهمها الأرَضة،
لتعلم الغيم القدرة على الحنين والبكاء.
************
لمَ يصلح ما تبقى من هواء في قاع رئتيك؟
لتفك لغز الليل..
وتومض عيناك ببريق غير مرئي للفرح
وتطرد زحف الطّحالب على رصيف الذكريات.
*********
ما دام في القلب نبض
دع عنك تعاليم الأوصياء
حفظ مواعيد الدواء.. ترك الكتب المضرّة بما تبقى من نظر
التخلي عن الحب المخل بضبط متوسط نبض القلب.
والاستسلام للموت باكرا مثل جرذ.
**********
لمَ يصلح ما تبقى في مواسم الخريف؟
لبهجة ربيع الحياة.
للاحتفاء بالذين غادروا وبادوا.
بمرح رقصة الألوان قبل أن يعم هباء البياض!
**************
لمَ يصلح الموت؟
يمنحنا حيزا لنبكي أنفسنا ونبتهج
لنملأ المرايا بشهيق الضباب..
لا زال فينا بعض نبض وقدرة على التذكر
لنعيد ترتيب أشيائنا ونحصي على أصابع يدنا
ما تبقى لنا من نصيب في الغناء.
لنقضي ما تبقى من رغباتنا في استعادة الصور والأشياء
نطلق ابتساماتنا أكثر ونتجّمل بوهج لآخر رمق..
أن يصاحب الثلج حين يذوب في النهر
أو يغير مذاق الملح وطعم السكر في فم الصغار.
أريد للأبيض أن يُعيد للونه كامل البهاء، وما تفرضه لياقة الحضور..
أن يطلق العنان لساقه الرقيقة لاصطياد الفراشات الفاتنة بأحلام الهواء.
كن فتكون أيها الأبيض، خارج ثقب الفراغ وشبح الأشياء
سيد الألوان القادم من المجهول خارج هوس الخلود.
منفلتا من أسر المعنى، حرا طليقا مثل نسمة هواء.