عناصر كلمة الأستاذ محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم و الإشتراكية
في افتتاح الجامعة السنوية للحزب حول موضوع :
السياسة أولاً..لإنجاح المشروع الديموقراطي التنموي
السبت 09 نونبر 2024
-
مرحباً بجميع ضيوفنا، وبممثلي وسائل الإعلام، وبرفيقاتنا ورفاقنا في الجامعة السنوية التي اخترنا أن يَـــكونَ موضوعُها “السياسة أولاً.. لإنجاح المشروع الديموقراطي التنموي.
-
لن أُخفيكم سراًّ أننا فكَّرنا مَـــــلِـــيًّــا في مواضيع أخرى لها أهميتها وراهنيتها أيضاً. لكن كان كلُّ موضوع نَقِفُ عنده ينبعثُ معه وفيه سؤالُ “السياسة” بارزاً بقوة.
-
لذلك اخترنا هذا الموضوع، ونحنُ، كما هو معلومٌ لدى الجميع، من أنصار ترصيدِ المكتسبات والارتكاز عليها، سعياً إلى تعميقها وتوسيع مجالها وبناءِ التقدم على أساسها.
-
فالمغربُ، من دون شك، عرف طفرةً إصلاحية هامة، أساسًا، منذ منتصف التسعينيات.
-
في تلك الفترة ولسنواتٍ بَعدَها، برزت إصلاحاتٌ تنموية قوية في كل المجالات الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية.
-
لكن السمة الأبرز في ذلك هي أنَّ كل تلك الإصلاحات كانت مَحمولةً سياسيًّا، واستندت إلى عُمقٍ سياسي، وإلى خلفيةٍ سياسية ومرجعية حقوقية، وحَرَّكَها هاجسٌ قوي وقدرةٌ كبيرة على التعبئة الاجتماعية وتصميمٌ واضحٌ على التَوَجٌّهِ نحو دمقرطة البلاد.
-
ولقد حظيَ ذاك الزخمُ الإصلاحي/الديموقراطي بالنجاح، لأنه كان نتيجةَ لالتقاءِ إرادتيْن في إطار تعاقُدٍ سياسي مثمر: إرادة مَــــلكية سامية في الإصلاح والتحديث والتغيير، وإرادة نضالية حزبية لمكونات الحركة الوطنية الديموقراطية.
-
في ذاك الخضم الحافل، تتذكرون، من دون شك، كيف أن إطلاق بلادنا لمبادرة الحُكم الذاتي أحدث رجَّةً إيجابية في مسار قضيتنا الوطنية الأولى، لا تزالُ آثارها الإيجابية إلى الآن. مما يؤكد الترابط الوثيق ما بين أوضاع جبهتنا الداخلية وبين مستوى المكانة الدولية لبلادنا، أيْ ما بين التحديات الداخلية وبين الرهانات الخارجية.
-
الحضور الكريم؛
-
من المؤكد، عموماً، أنَّ عدم الاستمرار في التقدُّم يؤدي، بشكلٍ طبيعي، إلى “تآكُل المكتسبات“.
-
فاليوم، نَعَم، المؤسساتُ السياسية قائمةٌ وتشتغل، لكن هناك مشكل حقيقي في منسوب الثقة والمصداقية، وفي طبيعة الممارسات، وفي مدى قدرة الفضاء السياسي على خلق التعبئة الاجتماعية، وفي طبيعة علاقة المواطن بالسياسة؛
-
بمعنى أنه يجب الإقرار بأننا، فعلاً، أمام “أزمةٍ للعمل السياسي“.
-
وحين نقولُ إن “السياسة ببلادنا في محنة أو في وضعٍ حرِج“، فإن ذلك ينطلق من كون الأمر فعلاً يثير القلق والتخوف.
-
فمنذ نهايات العقد الأول من هذه الألفية، وعوض الاستمرار في ذلك المنحى الإصلاحي، الذي ذَكَرناه، بدأت تظهرُ ملامحُ تَوَجُّهٍ يَدفعُ في اتجاه “التحرر” من ذاك التعاقُد السياسي المثمر؛
-
بمبرِّر أنَّ القوى الوطنية الديموقراطية ليست مؤهلَةً ولا قادرةً على مواجهة مدِّ الإسلام السياسي، ولا على دعمِ العُمق التحديثي والإصلاحي.
-
إنما، في مفارقةٍ عجيبة، ظهرت وتصاعدت انحرافاتٌ في الحقل السياسي، تتنافى تماماً مع المبررات التي استند إليها هذا الخطابُ الجديد آنذاك.
-
وما يَسَّرَ الأمرَ أمام تلك الانحرافات هو أن القوى الوطنية الديموقراطية (الكتلة أساساً) كان ردُّ فِعلِها، عموماً، خافتاً وباهتاً، وكان موقفُها غيرَ موحَّدٍ ولا حازم.
-
ثم حلَّ حراكُ 2011، السياسي والاجتماعي، ليضطر ذاكَ التوجُّهُ النُّــــــكُــــوصي إلى التَّواري مؤقتاً، ليُفسَحَ المجالُ واسعاً أمام دستورٍ متقدمٍ جداًّ، شكَّلَ قفزةً دستورية، ومؤسساتية وديموقراطية وحقوقية، قوية وفارِقَة في مسارنا الوطني، على الأقل على مستوى النص.
-
وانبثقت بعدها تجربةٌ حكومية اندرجت في هذا السياق، وهو ما فَسَّرَ تواجُـــدَنا فيها، في خطوةٍ ليس المجالُ هنا للتفصيل فيها وفي تقييمها.
-
ولأنَّ الصراع السياسي مدٌّ وجَزر، ما لبثَتْ أنْ عادَتِ التوجُّهاتُ السلبيةُ إيَّاها، بأشكالَ مختلفةٍ، مُـــــلْــــحِــــقَـــةً أضراراً بالِغة بمكانة السياسة، وبأدوار الفاعل الحزبي، وبمصداقية المؤسسات السياسية.
-
وسأفتح قوساً، هنا، لأقول، بكل تَجَرُّدٍ وموضوعية، إن حزبَنا ظل، طوال هذه الفترات التي نتحدث عنها، ثابتاً على تَوجُّهٍ سياسي مستقيم وواضح، خيطُهُ الناظم: مناداتُنا بالتعاقد السياسي الجديد؛ وبجيلٍ جديد من الإصلاحات، ثم بالنفَس الديموقراطيِّ الجديد.
-
وسَعيْنا، بكل ما أوتينا من قوة، وبكل نية صادقة، نحو ضرورة تشكيل حركةٍ اجتماعية مواطِنَة، بحُمُولةٍ سياسية، لإحداثِ الرجَّةِ الضرورية في المجتمع، دفاعاً عن رصيد المكتسبات الديموقراطية، وعن البلورة السليمة لدستور 2011.
-
الحضور الكريم؛
-
قبل الخوض السريع في مُجمل المخاطر التي صارت تهدد فضاءَنا السياسي ومسارَنا الديموقراطي، اسمحوا لي أن أُدلِـــــيَ بملاحظتيْن جوهريتين:
-
الأولى: رغم كل شيء، يتعينُ الإقرار الموضوعي بأنه لا يمكنُ أبداً مقارنةُ أوضاع الديموقراطية والحريات والحقوق في أيامنا هذه مع ما كانت عليه الأحوالُ في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لكن طموحَنا هو تحقيق الأفضل للوطن والشعب، لا سيما وأنَّ بناءَ الديموقراطية هو مسار طويل وشاق ولا يَكتمل بطبيعته؛
-
وأما الملاحظة الثانية، فهي أنَّ انكماشَ السياسة وأزمة الديموقراطية التمثيلية ظاهرةٌ عالمية، وربما بدرجاتٍ أخطر. وهو ما يفسِّرُ صُـــــعُــــودَ الحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية، بما في ذلك في بلدان عُظمى. وهو طبعاً مسارٌ لا نتصورُهُ ممكناً لبلادِنا التي نطمحُ إلى أن تكون ريادية على كافة المستويات.
-
الآن، وعودةً إلى تسلسل الموضوع: فَمَا ذَكَــــرنَـــاهُ من توجُّهٍ مُضِرٍّ بالفضاء السياسي والبناء الديموقراطي، أفضى، باعتباره عاملاً رئيسياًّ، إلى بروز ثلاثة تجلِّيات على درجةٍ كبيرة من الخطورة على بلادنا:
-
التَّـــــجَــــلِّــي/المؤشر الأول: التراجع غير المسبوق لمنسوب ثقة المواطنين عموماً، والشباب خصوصاً، في الفضاء السياسي، في الفاعل الحزبي، في الجدوى من العملية السياسية والانتخابية، بما يُمْكِنُ أن نُسمِّـــيَــهُ، اليوم، “مخاصمة حقيقية بين معظم المغاربة وبين الشأن العام“، اللهُّمَّ تلك الاستثناءاتُ التي تؤكِّدُ القاعدة.
-
التجلي/المؤشر الثاني: هو كون المؤسسات السياسية، عموماً، المنتخبة وغير المنتخبة، لم تعد تضطلع بأدوارها كما يجب وكما ينص على ذلك الدستور، وهي اليوم ليست معزَّزة كما ينبغي بأفضل وأكفأ وأنزه ما يُوجَدُ في المجتمع من طاقات، مع استثناءاتٍ طبعاً.
-
التجلي/ الثالث: هو أننا أمام وضعية فراغٍ سياسي خطير، لا يمكن أن تملأهُ سوى تعبيراتٌ عفوية، أو متطرفة، أو غير مؤطَّرة، رافضة تقريباً لكل شيء.
-
وحتى نكون متفقين وواضحين، فنحنُ عندما نرصُــدُ هذه الاختلالات، بعد أن نكون دائما حريصين على ترصيد المكتسبات، فإننا نقومُ بذلك انطلاقاً من غيرتنا على وطننا ومؤسساتنا وثوابتنا الدستورية. فقنواتُ التأطير وأدواتُ الوساطة كلما كانت أقوى، كلما كانت أكثر قدرةً على أداء أدوارها الحامية للفضاء المؤسساتي والديموقراطي.
-
ويجب، بالمقابل، على تلك الأصوات التي تحترفُ الدفاعَ عن كلِّ شيء وبأيِّ شيء، ألاَّ تُـــوَجِّهَ لنا اللوم بأننا نُسَوِّدُ الصورة. فخطابُها التسطيحي والضيق الذي يُخَيَّلُ لها أنها تُـــدافِعُ به عن البلاد وعن الاستقرار، إنما هو في الحقيقة خطابٌ مُضِرٌّ بالوطن وبالمؤسسات، يستهدف كلَّ صوتٍ ما يزال يحمل شيئاً من الحيوية، مما يَزيدُ من تعميق أزمة الثقة.
-
الحضور الكريم؛
-
تحدثتُ، قبل قليل، عن التوجُّهِ التراجُــــعي، وعن ضُعف ردة الفعلِ السياسية للقوى الوطنية الديموقراطية إزاءَهُ.
-
وبالإضافة إلى ذلك، هناك عواملُ أخرى تظافرتْ، سنأتي إليها، بعد لحظة، سَـــهَّــــلَـــت غَلَبَةَ ممارساتٍ: مَسَّتْ بالحريات عموماً، وبحرية التعبير خصوصاً؛ وحاولتْ تطويعَ الفضاء الإعلامي؛
-
وفتحتِ البابَ أمام التدخل في شؤون الأحزاب، وبالتالي المسّ بمصداقيتها؛
-
وسَمَحت بانتشار ظاهرة استعمال المال في الفضاء السياسي والانتخابي، بشكلٍ لم يسبق له مثيل، وأدى إلى ولوجٍ واسعٍ للفساد والمفسدين إلى المؤسسات المنتخبة وإلى الأحزاب السياسية نفسها.
-
لكن كل ذلك، على خطورته الشديدة، إلاَّ أنه وحدَهُ لا يكفي لتفسير كل هذه المحنة الحرجة التي يعيشُها فضاؤنا السياسي/الديموقراطي، والتي لها أسبابٌ أخرى لا تَقِلُّ حَسْـــماً وأهمية:
-
أولاً: لنبدأ بمساءلة أنفسنا وأحزابنا، في شكلِ نقدٍ ذاتي يتعين أن يكون جماعياًّ وموضوعيا وشُجاعاً.
-
فلا يجب أن نجد حَـــرَجاً في الاعتراف الجماعي بأن القوى السياسية، الديموقراطية منها أساساً، فضَّلت، مُخطِئةً للأسف، في هذه المرحلة التي نتحدث عنها، الخوضَ في قضايا ثانوية، وخلافاتٍ جانبية، على حساب واجبِ تَــــوْحيدِ الكلمة أمامَ التناقضاتِ الرئيسية، وأمام واجب التصدِّي لأيِّ مساسٍ بمكانة العمل السياسي وبالفضاء الديموقراطي والحقوقي. وما حدث للكتلة الديموقراطية من إقبارٍ (مؤسف بل مؤلم) لَخيْرُ دليلٍ على هذا الأمر.
-
ثانيا: مسؤولية الدولة: من خلال واجبها في توفير إرادةٍ قوية ودائمة، لأجل تفعيل الدستور بكافة مضامينه؛ وضمان شروطٍ حِـــيَّادية للتنافس الشريف والنزيه والمتكافئ حول البرامج والتصورات؛ ولأجل تقوية المؤسسات السياسية والحزبية، حتى تكون صَمَّامَ أمانٍ للاستقرار السياسي والاجتماعي، ومُدافعةً عن التجربة الديموقراطية، من خلال أدوارٍ فعلية وناجعة في الوساطة المؤسساتية بين الدولة والمجتمع.
-
ثالثاً: مسؤولية المواطن: حقًّا، ليست كل العناصر، اليوم، جذابةً ومشجِّعَةً ليكون المواطنُ منخرطاً ومشاركاً، كما يجب، في المشروع الديموقراطي التنموي. لكن حتى في أحلك فترات الكفاح من أجل الاستقلال، وبعد ذلك دفاعاً عن دمقرطة البلاد، كانت للمساهمةُ المواطِنَة والعارِمة أدوارٌ حاسمة ومصيرية.
-
ولذلك، فالمواطنُ، اليوم، عليه مسؤوليةٌ، أيضاً، لأجل أن يَقتحمَ الفضاءَ السياسي والحزبي، وأن يكونَ له دور مؤثر، لأنَّ العزوف لا يَصُبُّ سوى في مصلحةِ مُناهضي التغيير والإصلاح.
-
الحضور الكريم؛
-
أمام هذا الوضع المركَّب، أعتقدُ أنه من المستعجل والمُلِحّ أن نَضَعَ بيننا، كقوى سياسية، أهدافاً مشتركة لا تَقبَلُ الخلاف ولا الاختلاف؛
-
من أجل بعثِ الروح في قيمة ومكانة السياسة، وفي نُبْلِ أدوارها، وفي قدرتها على أن تُشَكِّلَ المدخلَ المؤثِّر والعِمادَ الأساس لأيِّ مشروعٍ إصلاحي.
-
وذلك من خلال:
-
بلورة كافة المقتضيات الدستورية، ومنها السعيُ التدريجيُّ والمُستـــنيــــرُ نحو نظامِ مَلكية برلمانية كما حدَّدها الدستور، تَكون فيه أدوار أساسية للمؤسسة المَلَكية، طِــبقاً لهذا الدستور، في إطار فصل السلط؛
-
ومن خلال تقوية مكانة الحكومة المنبثقة عن صناديق الاقتراع والمجَسِّدَة فعلاً للإرادة الشعبية، حكومة تضطلع بالسلطة التنفيذية، كما ينص على ذلك الدستور، حكومة بصلاحيات فعلية تُبلورها على أرض الواقع وتُساءَلُ عليها طبقاً لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛
-
ومن خلال برلمان يتشكل من أحسن الكفاءات السياسية الوطنية، ويمارِسُ، فعليا وبشكلٍ كامل، اختصاصاته في التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية؛
-
ومن خلال لامركزية فعلية ومؤسسات ترابية منتخبة لها وزنُها وصلاحياتها وإمكانياتُها، ومتحررة من التقييدات، في إطار تقديمِ الحساب ومحاربة كافة أشكال الممارسات الفاسدة؛
-
ومن خلال مجتمعٍ مدني حيّ وقوي وفاعل ومُبادِر، يسترجع وظائفه المجتمعية، الترافعية والاقتراحية والتأطيرية؛
-
ومن خلال إعلامٍ حرّ ومستقل، تبرز فيه المقارباتُ التحليلية والنقدية، الجادة والبناءة والعميقة؛
-
وكذلك من خلال إعطاءِ دفعةٍ قوية للحريات الفردية والجماعية، وللمقاربات الحقوقية، بالمعنى الشامل وغير القابل للتجزيء للحقوق، بجميع أصنافها وأجيالها.
-
هكذا، يمكنُ أن نعطي لبلادِنا ذلك النَفَس الديموقراطي والحقوقي الذي هي في أمسِّ الحاجة إليه.
-
هكذا، يمكن أن نُعيد التَّوَهُّجَ للسياسة، ونُصالحَ الناس مع الفضاء الحزبي والمؤسساتي؛
-
هكذا، يمكن أن نسترجع المصداقية لتدبير الشأن العام، ونَضمنَ تحريَر طاقات المجتمع، واستعادةَ ثقةِ الشباب، ونُــوَفِّــــرَ شروطَ مشاركة وانخراط الجميع في بناء المشروع الوطني التنموي والديموقراطي.
-
هكذا، وبهذه الروح، وبهذه التعبئة، وبهذا الطموح، يمكن أن نستعد لاستحقاق 2030، بشموخٍ واعتزاز، ليس فقط بالبنيات التحتية وبالانتصارات الرياضية المرجوة، ولكن أساساً بمغربٍ يُبرز للعالم أنه يسير بخطى حثيثة نحو الديموقراطية والرقي الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
-
أليسَ كلُّ ذلك من صميم مسؤولياتنا، نحن السياسيون !؟