في مغرب اليوم، لم تعد الطبقة الوسطى مجرد فئة اجتماعية تقع بين الغني والفقير، بل تحوّلت إلى ذكرى باهتة في وجدان مجتمع تتسع فيه الهوة الطبقية بشكل خطير. لم يكن الملك محمد السادس مجازفًا حين قال في إحدى خطاباته إن “المغرب يسير بسرعتين”: سرعة للأغنياء تزداد تسارعًا، وسرعة للفقراء تزداد تباطؤًا نحو القاع. هذا الوصف الموجز يلخّص بدقة المشهد الاجتماعي في البلاد، حيث تتآكل الطبقة التي لطالما وُصفت بعماد الاستقرار ومحرك الاقتصاد وحاملة المشروع الحداثي.
ما يعيشه المغرب ليس مجرد تغيرات ظرفية أو نتائج طبيعية لدينامية السوق كما يُروج له، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات حكومية متراكمة، يغيب عنها البُعد الاجتماعي وتعتمد منطق التقشف مع الفقير والتساهل مع رأس المال، بل وخدمته أحيانًا بشكل فجّ. الحكومة الحالية، وسبقتها أخرى، تتعامل مع الطبقة الوسطى كأنها غير موجودة أو كأنها عبء لا يجب الاعتراف به. فالخطاب السياسي الرسمي يستعرض أرقامًا وردية صادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، تزعم أن حوالي 19 مليون مغربي ينتمون إلى الطبقة الوسطى، بينما الواقع المعيشي يفضح هذا الادعاء: موظف براتب 6 آلاف درهم بالكاد يواكب ارتفاع أسعار المواد الأساسية، ناهيك عن كلفة التعليم، الصحة، النقل، والسكن.
الطبقة الوسطى لا تُقاس بالأرقام الجامدة، بل بقدرتها على الادخار، على الاستهلاك غير الضروري، على تمويل تعليم أطفالها دون الاقتراض، على العيش بكرامة دون دعم مباشر من الدولة. واليوم، معظم من كان يُصنَّف ضمن هذه الفئة أصبح عاجزًا عن مجاراة الوتيرة السريعة لغلاء المعيشة، ما يدفعه إما إلى السقوط في مستنقع الفقر، أو إلى الهجرة نحو الخارج بحثًا عن أفق مفقود في وطنه. كل ذلك يحدث في ظل غياب أي إرادة سياسية لإصلاح منظومة توزيع الثروة أو فرض عدالة جبائية حقيقية.
الأسوأ أن كل السياسات العمومية التي يُفترض أن تدعم هذه الفئة تتهاوى واحدة تلو الأخرى: المدرسة العمومية لم تعد تضمن المصعد الاجتماعي، الصحة أصبحت سوقًا مفتوحًا أمام لوبيات المصحات، والسكن لم يعد في متناول من دخله أقل من 10 آلاف درهم، أما “الحماية الاجتماعية” فليست سوى شعار أكبر من واقعه، طالما لم يُرافق بإصلاح جبائي عادل، وتدبير فعلي للموارد.
المفارقة الصادمة أن المغرب ليس بلدًا فقيرًا في موارده، بل بلدٌ يُفقر شعبه عبر سوء التوزيع، كما كشفت التسريبات الأخيرة حول الأجور الفلكية لبعض مسؤولي المؤسسات العمومية وشبه العمومية، والامتيازات التي تُمنح بلا معايير واضحة، في بلد يُطلب فيه من الموظف البسيط أن يتحمل أعباء “الأزمة”، بينما تُحمى امتيازات فئة محدودة متنفذة. من هنا يصبح سؤال “أين الثروة؟”، الذي طرحه الملك قبل أكثر من عقد، أكثر راهنية وإلحاحًا اليوم.
انقراض الطبقة الوسطى في المغرب ليس فقط مسألة اقتصادية، بل تهديد صريح للنسيج الاجتماعي، للتماسك الوطني، ولأي حلم بمستقبل ديمقراطي حقيقي. مجتمع منقسم بين قلة مرفهة وقاعدة عريضة مسحوقة، دون وسطٍ عاقل متوازن، هو مجتمع على حافة الاحتقان. الحكومة الحالية، بما تمثله من توجه تكنوقراطي بعيد عن نبض الشارع، تبدو عاجزة عن إدراك خطورة ما يجري. فهي تُدير البلاد بلغة الأرقام الباردة والبرامج المعلبة، في حين أن الواقع يصرخ بفجائع لا تقرأها الموازنات.
إنقاذ ما تبقى من هذه الطبقة يتطلب ما هو أكثر من إصلاحات سطحية أو وعود انتخابية، بل يحتاج إلى مراجعة جذرية لنموذج التنمية، وإعادة الاعتبار للعدالة الاجتماعية، ليس كشعار، بل كأولوية حقيقية في قلب السياسات العمومية. فمغرب بسرعتين لا يمكنه أن يصمد طويلًا دون أن يدفع الثمن، والثمن سيكون باهظًا.