خطاب ثورة الملك والشعب والرسائل الخمس
عرف الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الـ 63 لثورة الملك والشعب مسارا مغايرا لخطابات الذكرى ذاتها، سواء في تركيبته الخطابية أو دلالاته أو رسائله. خطاب عبّر فيه عاهل البلاد عن مواقف وسكت عن أخرى، كشف فيه عن رسائل وحجب أخرى، خطاب أعلن فيه عن حقائق وسكت عن أخرى. وبالمناسبة نشير إلى أن أهمية تحليل الخطاب لا تتجلى في تفكيك بنياته الشكلية أو تمطيط ما صرح به، بل تتجلى في الكشف عما سكت عنه الخطاب وتحويله إلى فضاء معرفي منتج لمعرفة جديدة.
والمختص في تحليل الخطاب السياسي يلاحظ كيف جاء الخطاب الملكي محكوما بمنطق الهوية المغربية والمغاربية والقارية والدولية، وحاملا لرسائل عدة موجهة إلى محيط المغرب الداخلي والخارجي يمكن حصرها في خمس ذات دلالات استراتيجية.
الرسالة الأولى موجهة إلى رئيس الحكومة ووزيري الداخلية والعدل والحريات وإلى الأحزاب والمواطنين
الكل كان يراهن على أن يكون خطاب الذكرى 63 لعيد ثورة الملك والشعب خطابا موضوعه الأساسي الانتخابات التشريعية لـ 7 اكتوبر تفاعلا مع سياق الزمن الانتخابي أسوة بخطاب السنة الماضية للذكرى ذاتها، والذي كون خارطة طريق للانتخابات الجماعية والجهوية. لكن الخطاب الملكي لهذه السنة فاجأ الكل، ولم يتعرض بشكل مباشر لانتخابات 7 اكتوبر رغم السياق الصعب والمعقد الذي ستنظم فيه هذه الانتخابات. لكن عدم تعرض الخطاب الملكي لانتخابات 7 اكتوبر له ما يبرره سياسيا، وهو إرسال رسالة قوية إلى الحكومة والأحزاب والمواطنين مفادها: هذا شأنكم وليتحمل كل واحد منكم المسؤولية، وكل ما أردت قوله لكم عن الانتخابات التشريعية لـ 7 أكتوبر قلته بالواضح في خطاب العرش الأخير
وهنا يتجلى ذكاء الخطاب الملكي واستراتيجيته؛ حيث إنه تغاضى عن الحديث عن انتخابات 7 أكتوبر في خطاب ثورة الملك الشعب في الذكرى 63، أسوة بخطاب الذكرى 62، لكون جلالته حسم الأمر في خطاب العرش الأخير الذي أكد فيه جلالته أنه الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وأنه لا يشترك في أي انتخاب ولا ينتمي لأي حزب، وأنه ملك لجميع المغاربة مرشحين وناخبين، مضيفا جلالته أنه ملك لكل الهيئات السياسية دون تمييز أو استثناء، وأنه يحظى بمكانة خاصة في النظام السياسي المغربي، وعلى جميع الفاعلين مرشحين وأحزابا تفادي استخدامه في أي صراعات انتخابية أو حزبية.
يتبين إذن أن تغاضي الخطاب الملكي عن الحديث عن انتخابات 7 أكتوبر فيه رسالة قوية وغير مباشرة إلى الأحزاب والحكومة لكي تتحمل مسؤولياتها بعيدا عن تأويل مضامين الخطاب الملكي، كما وقع بين حزبي “البام” و”البيجيدي” بعد خطاب العرش الأخير؛ حيث إن كل حزب اتهم الآخر بأنه هو المقصود بما جاء في الخطاب الملكي. ولقطع الطريق على أي حزب لاستغلال أو تأويل مضامين الخطاب الملكي، تحاشى خطاب ثورة الملك والشعب للذكرى 63 الحديث عن الانتخابات التشريعية المقبلة، بل إنه لم يطلب حتى من المواطنين التسجيل في اللوائح الانتخابية والتصويت بكثافة، بل أيضا ترك الأمور للأحزاب انطلاقا من مبدأ فصل السلط، خصوصا بعد ما جاء في خطاب العرش الأخير، داعيا الإدارة التي تشرف على الانتخابات تحت سلطة رئيس الحكومة، ومسؤولية وزير الداخلية ووزير العدل والحريات، إلى القيام بواجبها، في ضمان نزاهة وشفافية المسار الانتخابي. باختصار إنه خطاب اتخاذ المسافات بين المؤسسة الملكية وباقي المؤسسات، وترك الأحزاب والمواطنين يتحملون المسؤولية كما خولها لهم الدستور والقوانين التنظيمية المؤطرة للانتخابات التشريعية المقبلة.
الرسالة الثانية موجهة إلى الشعب الجزائري
بلغة بليغة ذات حمولة تاريخية وسياسية ورمزية، ذكّر الخطاب الملكي بالكفاح المشترك بين قيادات المقاومة المغربية، وجبهة التحرير الجزائري. ونلاحظ هنا تركيز الخطاب الملكي على الشعب الجزائري وليس على النظام الجزائري، وعدم التعرض للصراع المفتعل بين المغرب والجزائر حول الصحراء المغربية الذي يشكل عائقا موضوعيا أمام الشعبيين الجزائري والمغربي لرفع التحديات التنموية والأمنية المشتركة، وعرقلة بروز أي قطب مغاربي عماده المغرب والجزائر لرفع التحديات التي تواجه القارة الإفريقية.
والأكيد أن التغيير الكبير الذي ميز لغة الخطاب الملكي وأسلوبه أثناء الحديث عن الجزائر كشعب أو كنظام يحمل في طياته ايحاءات متعددة مفادها إمكانية حدوث انفراج في العلاقات المغربية الجزائرية في المستقبل القريب أو المتوسط، خصوصا وأن مضمون الرسالة التي وجهها الرئيس الجزائري بوتفليقة إلى العاهل المغربي بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ 63 لـ”ثورة الملك والشعب” فيها ايحاءات وإشارات بأن هناك إمكانية فتح علاقات جديدة، والأساسي الذي ميز تبادل التهاني بين قادة المغرب والجزائر هذه السنة هو إعلان الجانبين بشكل متزامن رغبتهما في توثيق علاقات التعاون دون إثارة ملف الصحراء.
إذا حملت لغة الخطاب الملكي تجاه الشعب الجزائري عدة إيحاءات وإشارات بإمكانية عودة العلاقات المغربية الجزائرية إلى مجراها الطبيعي، فعلى السياسيين والمحللين المغاربة أن يتخذوا من لغة الخطاب الملكي ومنهجيته مرجعية في مخاطبة الشعب الجزائري، مع التركيز على التمييز بين النظام الجزائري والشعب الجزائري في موضوع ملف الصحراء لكونه ملف نخبة وليس ملف شعب.
الرسالة الثالثة موجهة إلى إفريقيا
قدم الخطاب الملكي المغرب ودولة مؤمنة بمستقبل أفريقيا ومدافعة عن حقوقها ومرافعة عن قضاياها، خصوصا بعد قرار عودة المغرب إلى مكانه الطبيعي داخل أسرته المؤسسية القارية، ليس من أجل وحدته الترابية فقط، بل لاقتناع المغرب بأنه يمثل الامتداد الطبيعي والعمق الاستراتيجي لأفريقيا. عمق غير مبني على ثقافة الاستعمار أو الاستغلال، بل على منفعة مشتركة وخدمة المواطن الافريقي. وقد قدم الخطاب الملكي عدة براهين عل ذلك: إنجاز البنيات التحتية، ومراكز التكوين المهني والتقني، والمشاريع التي توفر الشغل والدخل القار كقرى الصيادين، ودعم الفلاحين الصغار، وتشجيع الحفاظ على الأنظمة البيئية.
والمغرب يعد من بين دول الجنوب الأولى التي اعتمدت سياسة تضامنية حقيقية لاستقبال المهاجرين من جنوب الصحراء وفق مقاربة إنسانية مندمجة تصون حقوقهم وتحفظ كرامتهم، خلافا لما يعانونه في العديد من مناطق العالم، لينقد عاهل البلاد بكفية غير مباشرة عددا من الدول الغربية التي تتشدق بالديمقراطية وبمرجعيات حقوق الإنسان ومبادئ القانون الانساني ومناهضة التمييز العنصري، لكن ممارساتها تجاه المهاجرين الأفارقة تثبت العكس، وفي هذا تسويق ذكي للنموذج المغربي في تدبير ملف المهاجرين الأفارقة.
الرسالة الرابعة موجهة إلى المجتمع الدولي والجماعات الإرهابية المسيئة للإسلام
كان خطاب جلالته خطاب حسم وصرامة وموقف وإدانة لقتل الأبرياء مهما كانت ديانتهم مبرهنا بآيات عديدة تؤكد بأن الاسلام السليم لا علاقة له بالإرهاب. وقد اعتمد الخطاب الملكي لمخاطبة المجتمع الدولي آليات الحجاج والاقناع بأن من يقتل باسم الإسلام ليس مسلما، ولا يربطه بالإسلام إلا الدوافع التي يركب عليها لتبرير جرائمه وحماقاته. ونشير إلى أن جلالة الملك في رسالته الرابعة الموجهة إلى الغرب حول الاسلام والإرهاب تحدث فيها ليس كملك المغرب فقط، بل كأمير المؤمنين، مؤكدا أن الجهاد في الإسلام يخضع لشروط دقيقة من بينها أنه لا يكون إلا لضرورة دفاعية، ولا يمكن أن يكون من أجل القتل والعدوان، ومن المحرمات قتل النفوس بدعوى الجهاد. ومن شروط صحة الجهاد أيضا أن الدعوة إليه هي من اختصاص إمارة المؤمنين، ولا يمكن أن تصدر عن أي فرد أو جماعة.
واعتقد بأن الخطاب الملكي في هذه الرسالة قد قام بتسويق النموذج الديني المغربي الذي تلعب فيه إمارة المؤمنين المحور المركزي، منبها الدول الأوربية إلى اتخاذ كل الاجراءات تجاه استغلال الجماعات الإرهابية بعض الشباب المسلم، خاصة في أوروبا، وجهلهم باللغة العربية وبالإسلام الصحيح لتمرير رسائلهم الخاطئة ووعودهم الضالة، مؤكدا جلالته أن الكل مستهدف، وقد سبق للإرهاب أن ضرب المغرب من قبل، ثم أوروبا والعديد من مناطق العالم. وأمام خطورة الوضع، طالب جلالته الجميع، من مسلمين ومسيحيين ويهود، بالوقوف في صف واحد من أجل مواجهة كل أشكال التطرف والكراهية والانغلاق.
وانطلاقا من مؤسسة إمارة المؤمنين وكون جلالته صاحب شرعية دينية، وأمام اتساع دائرة الإرهاب والتطرف وظهور بعض التفسيرات المتشددة التي شوهت حقائق الدين الإسلامي في الغرب، نهج الخطاب استراتيجية الهجوم والمواجهة مع خطاب التطرّف والإرهاب، معتبرا قتل الأبرياء جريمة وقتل راهب حماقة لا تغتفر لأنه إنسان قبل كل شيء.
وعلى هذا الأساس، جسدت الرسالة التي وجهها جلالته إلى المجتمع الدولي في موضوع علاقات الإرهاب بالإسلام خصوصية وفعالية النموذج المغربي في مواجهة كل أشكال التطرف والغلو والإرهاب انطلاقا من إمارة المؤمنين التي لعبت منذ قرون دور تحصين الأمن الروحي للمغاربة.
الرسالة الخامسة.. الملك الاستراتيجي والإنساني
برهن خطاب الملك بمناسبة الذكرى 63 لثورة الملك والشعب عن الرؤية الاستراتيجية للعاهل المغربي لعدد من القضايا الوطنية والمغاربية والأفريقية والدولية بحس إنساني رفيع، عكست مرجعيات فكر جلالته، وجعلت المجتمع الدولي يعترف بمقاربته للسياسة الإنسانية من خلال اختيار المغرب ليتولى، إلى جانب ألمانيا، الرئاسة المشتركة سنتي 2017-2018 للمنتدى العالمي للهجرة والتنمية.
باختصار، شكل الخطاب الملكي مرجعا في التواصل السياسي المبني على بساطة اللغة والصرامة المنهجية وانسجام النسق الفكري، ومقاربة استراتيجية لمستقبل العلاقات المغاربية والأفريقية والدولية، ورؤية واضحة لقضايا الهجرة والإرهاب، وموقفا صارما تجاه الانتخابات التشريعية المقبلة لأنها شأن حسم فيه في خطاب العرش الأخير. فهل ستلتقط القوى الوطنية والمغاربية والأفريقية والدولية الرسائل الخمس للخطاب الملكي في سياق وطني وإقليمي وقاري ودولي مأزوم؟