في عالم يشهد تحولات سياسية واقتصادية وثقافية متسارعة، لم تعد السياسات الاجتماعية مجرّد أدوات تقنية لتنظيم شؤون المواطنين، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس طبيعة العلاقة بين الحكومة والمجتمع.
هذه السياسات، التي يُفترض أن تضمن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، غالبًا ما تُستخدم كوسيلة لتكريس أيديولوجيا الحكومة وتوجيه السلوك الاجتماعي في اتجاهات تخدم مصالح النخبة الحاكمة.
الحكومة ، في كثير من السياقات، لا تنظر إلى المجتمع باعتباره شريكًا حقيقيًا في بناء السياسات، بل تتعامل معه ككتلة خاضعة تحتاج إلى “الإحسان” أكثر من حاجتها إلى الحقوق.
لذلك، يتم اختزال الحاجيات الاجتماعية للمواطنين في شعارات جوفاء أو إجراءات ظرفية، دون أي إرادة حقيقية لإحداث تغييرات هيكلية تعالج الأسباب العميقة للهشاشة والفقر. وتظهر هذه المفارقة بوضوح في بعض المبادرات التي تروّج لها الحكومة باعتبارها إنجازات اجتماعية، بينما في الواقع، تُدار بمنطق الضبط والتحكّم، لا بمنطق التمكين والكرامة.
في المقابل، يتزايد وعي المجتمع بحقوقه، وتتنامى قدرته على التعبير عن مطالبه، سواء من خلال الاحتجاجات أو المقاطعات أو حتى عبر الفضاء الرقمي. لكن هذا الوعي يصطدم بتقاعس الحكومة عن التجاوب الجدي، وغالبًا ما يتم تشويه هذه المطالب أو قمعها بدل الإنصات إليها.
نماذج عديدة في السياق المغربي تجسد هذا الصدام، من حراك الريف إلى احتجاجات الأساتذة المفروض عليهم التعاقد، إلى طلبة كلية الطب ، وغيرهم الكثير ، حيث تحوّلت المطالب الاجتماعية البسيطة إلى قضايا سياسية معقّدة بسبب انغلاق الحكومة على خطابها الأحادي.
هذا التوتر لا يمكن أن يستمر دون تكلفة، فغياب سياسات اجتماعية عادلة يُنتج مزيدًا من التهميش، ويقوّض الثقة في المؤسسات، ويخلق فجوة متزايدة بين المواطنين والدولة.
وحدها سياسة اجتماعية تقوم على الشفافية، العدالة التوزيعية، والإنصات الحقيقي، قادرة على ترميم العلاقة المتصدعة بين الطرفين. المطلوب اليوم ليس فقط ضخ أموال في صناديق الدعم، بل إحداث قطيعة مع منطق الريع والولاء، والانتقال إلى منطق الحقوق والمساءلة.
في نهاية المطاف، إن أي سياسة اجتماعية لا تنبع من وعي بمطالب المجتمع، ولا تُبنى على أساس التشارك والتكامل، ستظل رهينة لأيديولوجيا الحكومة ، ولن تنجح في تحقيق العدالة التي هي جوهر أي مشروع مجتمعي حقيقي.