في عصر التحولات الرقمية والتطور التكنولوجي، أصبحت الوسائل البصرية، سواء كانت أفلامًا أو فيديوهات عبر الإنترنت، أحد أبرز العوامل المؤثرة في تشكيل قيم ورؤى الأجيال الشابة.
لم يعد هذا التأثير مقتصرًا على تقديم محتوى ترفيهي فقط، بل أصبح يشمل إعادة تشكيل مفاهيم الهوية الشخصية، والمكانة الاجتماعية، والأهداف الحياتية. اليوم، تهيمن الصور والفيديوهات على عقول الأجيال الجديدة، مما يضع تحديات ثقافية واجتماعية ونفسية في مواجهة هذه الأجيال.
من خلال منصات مثل يوتيوب، تيك توك، وإنستغرام، أصبح الشباب اليوم أكثر عرضة للاستهلاك المتواصل لمحتوى مرئي.
وفقًا لدراسة حديثة أجرتها “Pew Research Center”، فإن 87% من المراهقين في الولايات المتحدة يمتلكون هواتف ذكية، مما يتيح لهم الوصول الفوري إلى محتوى بصري يشمل أفلامًا، فيديوهات، ومقاطع قصيرة تؤثر على تفكيرهم وسلوكياتهم.
لم يعد التلفزيون هو الوسيلة الوحيدة التي تقدم محتوى مرئي، بل أصبحت منصات الإنترنت هي المصدر الرئيسي للمعلومات والترفيه، وهي التي تشكل الفضاء الثقافي الذي يعيش فيه الشباب.
الوسائل البصرية تساهم في تشكيل مجموعة من القيم الاجتماعية والنفسية. غالبًا ما تقوم هذه الوسائل بتقديم نماذج سلوكية وجمالية تتعلق بالجمال، المال، النجاح، وعلاقات الشخصيات.
ومع التكرار المستمر لهذه الصور النمطية، يصبح من الصعب على الأجيال الجديدة مقاومة تأثيرها، ما يؤدي إلى تأثيرات كبيرة في تكوين مفاهيم الهوية والواقع الاجتماعي.
إذ نجد أن الشباب يميلون أكثر إلى محاكاة الشخصيات العامة والمشاهير الذين يقدمهم الإعلام كرموز للنجاح. هذه المحاكاة قد تكون ضارة أحيانًا عندما تكون هذه الصور غير واقعية وتتناقض مع القيم العميقة مثل العمل الجاد والصدق.
لكن التأثير لا يقتصر على النمط السلبي فقط. على الجانب الآخر، يمكن للوسائل البصرية أن تساهم في تعزيز الوعي الثقافي والاجتماعي. حيث نجد في بعض الأحيان أن الأفلام والمحتوى المرئي يساهمان في نقل رسائل توعية هامة، مثل أهمية الصحة النفسية، وتفهم التنوع الثقافي، وضرورة الحفاظ على البيئة.
هذه المواضيع، التي كانت قد تعتبر ذات أهمية ثانوية في بعض الأحيان، أصبحت اليوم محط اهتمام واسع بفضل ظهورها المستمر في المحتوى المرئي الذي يتابعه الشباب.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الأثر النفسي السلبي الذي تتركه هذه الوسائل. فالتعرض المستمر لمحتوى مرئي يعرض معايير غير واقعية للجمال والنجاح قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، خاصة بين المراهقين الذين يقضون ساعات طويلة في مشاهدة مقاطع الفيديو والمقارنة مع الآخرين.
هذا التأثير يزداد بشكل خاص في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُعرض الصور المثالية والشخصيات الناجحة بطريقة مصممة بعناية لخلق انطباع خاطئ عن الحياة.
ما يزيد من تعقيد هذا الأمر هو الدور المتزايد للصور النمطية في تشكيل رؤى الشباب. هذه الصور تساهم في تكريس مفاهيم ضيقة عن الجنس، العرق، والمكانة الاجتماعية، مما يرسخ التفرقة والتمييز.
على سبيل المثال، تعرض العديد من الأفلام والمسلسلات نماذج متكررة من الشخصيات النسائية أو الرجالية التي قد تروج لمفاهيم تتعلق بالجمال أو القوة الجسدية، بينما يتم تجاهل أو تقليص تمثيل الشخصيات ذات الخلفيات الثقافية أو الاجتماعية المختلفة.
هذا النوع من التمثيل يؤثر سلبًا على فهم الأجيال الشابة للعالم من حولهم ويقلل من التنوع الثقافي الذي يمكن أن يثري تجربتهم الحياتية.
كما لا يمكن إغفال أن الوسائل البصرية تلعب دورًا كبيرًا في توجيه الرغبات الاجتماعية والشخصية لدى الشباب. ففي عالم اليوم، لا تُعتبر الصورة المثالية أو النجاح في وسائل الإعلام مجرد ترفيه، بل أصبحت معيارًا يقاس عليه الفرد. تتجه الرغبات نحو مظهر الجسم المثالي، الحياة الفارهة، والنجاح السريع، وهي مفاهيم يتم تعزيزها باستمرار عبر الوسائط البصرية. ولكن مع ذلك، يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن لهذه الصور أن تظل محفزة للشباب دون أن تساهم في تدمير هويتهم الأصلية أو تحويلهم إلى نسخ مكررة للآخرين؟
وفقًا لدراسة GlobalWebIndex ، تمثل الفيديوهات عبر الإنترنت أكثر من 55% من وقت استخدام الشباب للإنترنت، حيث يتفاعلون مع منصات مثل يوتيوب وتيك توك بشكل يومي.
هذا التحول الكبير نحو الوسائل البصرية يشير إلى قوة هذه المنصات في تشكيل المستقبل الثقافي والنفسي للأجيال القادمة.
ففي السنوات الأخيرة، زادت مدة المشاهدة اليومية للمحتوى المرئي بنسبة كبيرة، وهو ما يعكس تحولًا في كيفية استهلاك المحتوى الثقافي، ومعه تتغير معايير الحياة والطموحات.
المستقبل أيضًا يعد بمزيد من التأثيرات التي ستشكل شباب الغد. مع تقنيات مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)، سيكون لدى الشباب تجارب مرئية أكثر تعقيدًا وغمرًا في العوالم الرقمية، مما يضيف طبقة جديدة من التحديات والمخاطر.
إذ أن هذه التقنيات ستمنحهم قدرة أكبر على التفاعل مع المحتوى بصريًا، لكن بنفس الوقت ستزيد من الضغوط التي يعانون منها من أجل الوصول إلى معايير الجمال أو النجاح.
إن تأثير الثقافة البصرية على الأجيال الشابة هو قضية معقدة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والوعي. بين التأثيرات الإيجابية التي تساهم في التوعية والتعليم، والتحديات النفسية التي تطرحها الوسائل البصرية، يصبح من الضروري اتخاذ خطوات جادة لتوجيه هذا التأثير لصالح الأجيال القادمة.
ينبغي أن يكون هناك تعاون بين الجهات الإعلامية، التربوية، والنفسية لوضع استراتيجيات تمكن الشباب من استهلاك هذه الوسائل بطريقة صحية وواعية.