قبل أسبوع دهمت عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” (FBI) مقر إقامة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مارالاغو بفلوريدا للبحث عن وثائق سرية حكومية مفقودة رفض تسليمها بعد خروجه من البيت الأبيض، وهو ما اعتبره ترامب محاولات لمنعه من الترشح للرئاسيات القادمة.
وتأتي هذه الخطوة لتضاعف متاعب ترامب الذي ما زال يخضع لتحقيقين جنائيين، يتعلق أولهما بتدخله لتغيير نتائج انتخابات 2020 الرئاسية، ويرتبط ثانيهما بتهم وجرائم مالية وتهرب ضريبي، إضافة إلى ما يمكن أن تصل إليه التحقيقات في قضية اقتحام أنصاره لمبنى الكونغرس وإمكانية اتهامه شخصيا بالتحريض.
وكشفت الوثائق القضائية أن عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي عثروا على عدد من “الوثائق السريّة للغاية” خلال عملية دهم منزل الرئيس السابق، في عملية تعد آخر حلقة ضمن سلسلة اتهامات للرئيس السابق بالتهور وانتهاك معلومات سريّة حتى أثناء وجوده في السلطة، قبل أن يخسر في انتخابات الرئاسة التي جرت أواخر 2020 أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن.
وقد حظي ترامب بوصفه رئيسا للولايات المتحدة بالسلطات التي تتيح له نزع سرية المعلومات بشكل أحادي، لكن بعض تصرفاته شكلت صدمة لدوائر الاستخبارات الأميركية.
فقد كشف في 30 أغسطس/آب 2019، في تغريدة عما يُعتقد أنها صورة سرية عالية الدقة لموقع إطلاق صواريخ إيراني، وقال في التغريدة “لم تكن الولايات المتحدة الأميركية متورطة في أي حادث كارثي خلال التحضيرات النهائية لإطلاق الصاروخ سفير الذي يحمل قمرا اصطناعيا من موقع سمنان في إيران”.
وفي أبريل/نيسان 2017، أبلغ ترامب الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي أن غواصتين نوويتين أميركيتين توجدان قبالة سواحل كوريا الشمالية، متباهيا بـ”قوة نارية كبيرة”، بحسب نص المكالمة الذي نشرته الفلبين، رغم أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لا تكشف مواقع غواصاتها التي تعد أساسية لقوة الدفاع الإستراتيجية الأميركية.
وبعد مقتل زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي في عملية أميركية في سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كشف ترامب في إطار تباهيه بالهجوم عن تفاصيل عديدة يتحفظ البنتاغون عليها عادة، مثل عدد المروحيات التي شاركت وكيفية دخول عناصر القوات الخاصة إلى مقر إقامة البغدادي.
وفي الواقع لم يكن ترامب أول رئيس أميركي سواء في السلطة أو خارجها يخضع لتحقيقات العملاء الفدراليين، إذ سبقه إلى ذلك رؤساء أميركيون أبرزهم ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وبيل كلينتون بتهم مختلفة، منها السياسي والاستخباراتي وحتى الأخلاقي.
نيكسون.. ووتر غيت
ففي الثامن من أغسطس/آب 1974، استقال ريتشارد نيكسون، الرئيس الـ37 للولايات المتحدة، لتجنب عزله إثر تفجر الفضيحة المعروفة إعلاميا باسم “ووترغيت”، وذلك عقب إلقاء القبض على 5 أشخاص في مقر الحزب الديمقراطي في واشنطن، أثناء نصبهم أجهزة تسجيل مخفية، حيث توجهت أصابع الاتهام لنيكسون شخصيا.
وبسبب صعوبة وضعه السياسي الحرج وتضاؤل فرصه في الفوز بولاية جديدة قرر الرئيس نيكسون التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت، لتتخذ الفضيحة اسمها من هذا المبنى بعد أن تكشفت خيوط اللعبة.
فقد أشارت التحقيقات إلى وجود مبالغ مالية بحوزة الأشخاص المعتقلين تثير الشكوك، وعند تتبع الحسابات المالية تبين أن لها علاقة بمؤسسات ممولة لحملة إعادة انتخاب الرئيس نيكسون.
وإثر ذلك نشرت صحيفة واشنطن بوست معلومات تلقتها من مجهول -تبين لاحقا أنه مارك فلت نائب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي- تفيد بأن هناك علاقة بين عملية التجسس ومحاولة التغطية عليها وبين جهات رسمية رفيعة، مثل وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية وصولاً إلى البيت الأبيض.
وبعد فترة من الشد والجذب صدر الحكم النهائي في القضية وتتم الإشارة فيه إلى الرئيس نيكسون كمشارك في تلك القضية، ليباشر الكونغرس إثر ذلك مناقشات تمهيدا لعزله عن منصبه، وبعد أن بات من المؤكد أن أغلبية أعضاء الكونغرس سيصوتون مع عزل الرئيس قرر نيكسون الاستقالة، ليعلن ذلك رسميا في خطاب متلفز عشية الثامن من أغسطس/آب 1974.
ريغان.. إيران غيت والكونترا
أما الرئيس الـ 40 للولايات المتحدة رونالد ريغان الذي حكم في ثمانينيات القرن الماضي فقد ارتبط اسمه بالقضية التي تعرف باسم “إيران غيت” وكذلك باسم “إيران كونترا”، وهي تعد أيضا من أشهر الفضائح السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي سابقا، وقد خلصت لجان تحقيق أميركية إلى تورط الرئيس السابق رونالد ريغان فيها.
واتخذت الفضيحة اسمها من صفقة سرية باعت بمقتضاها إدارة الرئيس رونالد ريغان خلال فترة ولايته الثانية لإيران أسلحة بوساطة إسرائيلية، رغم قرار حظر بيع الأسلحة إلى طهران وتصنيف الإدارة الأميركية لها “عدوة لأميركا” و”راعية للإرهاب”.
وقد استخدمت الإدارة الأميركية أموال الصفقة وأرباحها في تمويل سري لحركة معارضة الثورة المعروفة بـ”الكونترا” التي كانت تحارب للإطاحة بالحكومة اليسارية وحزب “ساندينيستا” الذي كان يحكم نيكاراغوا، والذي يحظى بدعم كل من الاتحاد السوفياتي السابق وكوبا.
ونص الاتفاق السري بين أميركا وإيران -التي كانت تخوض آنذاك حربا ضد العراق- على تزويد طهران بأسلحة متطورة، تشمل قطع غيار طائرات “فانتوم” وحوالي 3 آلاف صاروخ من طراز “تاو” TOW مضاد للدروع وصواريخ “هوك” أرض جو HAWK مضادة للطائرات، مقابل إطلاق سراح مواطنين أميركيين كانوا محتجزين في لبنان.
وتم الاتفاق حينئذ بين جورج بوش الأب، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس ريغان، ورئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر في العاصمة الفرنسية باريس، بحضور آري بن ميناشيا مندوب المخابرات الإسرائيلية الخارجية “موساد”.
وتتعارض الصفقة مع قوانين الكونغرس الذي كان يحظر حينها تمويل حركة “الكونترا” وكذلك بيع الأسلحة لإيران، إضافة إلى أنها شكلت خرقا لعقوبات الأمم المتحدة على بيع الأسلحة لإيران.
وبدأت الفضيحة تظهر إلى العلن بعد نشر مجلة الشراع اللبنانية في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 1986 تحقيقا حول الموضوع، ذكرت فيه أنه تم اكتشاف هذه العملية السرية بعد إسقاط جسر جوي من الأسلحة على نيكاراغوا، وفي 25 نوفمبر/تشرين الثاني، اعترف النائب العام الأميركي إيدوين ميس بأن أرباح العملية نقلت بشكل غير قانوني إلى ثوار “الكونترا”.
وبعد مواجهة الرئيس ريغان بضغط كبير، أعلن في 26 نوفمبر/تشرين الثاني عن تأسيس لجنة رئاسية للقيام بمراجعة خاصة في الفضيحة عرفت باسم “لجنة تاور” التي لم تحدد في تقريرها بشكل حاسم درجة تورط ريغان، لكنها انتقدته يوم 26 فبراير/شباط 1987، لأنه “لم يسيطر على فريقه للأمن القومي”.
ورغم نفى ريغان علمه بالعملية، تبين في الأول من يناير/كانون الثاني 1986 أنه كان على علم بالصفقة بعد الاطلاع على مفكرة الملاحظات اليومية الخاصة به، ويوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، أعلن الكونغرس تقريره النهائي حول القضية، وحمل فيه ريغان المسؤولية الكاملة لما قام به مساعدوه في القضية، واتهم إدارته بممارسة التكتم والخداع وازدراء القانون.
كلينتون.. وايت ووتر ومونيكا
وفي تسعينيات القرن الماضي عادت الفضائح مرة أخرى ليتم التحقيق مع الرئيس الـ 42 للولايات المتحدة بيل كلينتون في القضية الشهيرة المعروفة باسم وايت ووتر المتعلقة باستثمارات عقارية، كما تم التحقيق معه في قضية تحرش جنسي رفعتها الموظفة بالبيت الأبيض مونيكا لوينسكي.
فقد وقف الرئيس كلينتون وزوجته هيلاري أمام المحققين في القضية التي تعرف إعلاميا باسم وايت ووتر والتي تتعلق باستثماراتهما العقارية في ولاية أركنساس، قبل أن يصل أيّ منهما إلى المكتب البيضاوي عام 1993.
وقد أثارت قضية وايت ووتر سجالا سياسيا كبيرا على الصعيد الداخلي الأميركي، وبدأت بمشروعات استثمارية في القطاع العقاري قام بها كلّ من بيل وهيلاري كلينتون وشركائهما جيم وسوزان ماكدوغال، من خلال إنشاء شركة تعرف باسم وايت ووتر للتنمية قبل أن تعلن إفلاسها في 1980.
وظهرت هذه القضية للعلن إثر نشر مقال بجريدة نيويورك تايمز خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لكلينتون في عام 1992، ذُكر فيه أنه وزوجته هيلاري قد استثمرا وخسرا أموالًا في مشروع تنمية وايت ووتر، واتُهما بالضغط على مصرفي في أركنساس لتزويد شريكهما ماكدوغال بقرضٍ غير قانوني، وكذلك استخدام أموال بشكل غير مشروع في حملة كلينتون لحاكم الولاية.
وقد أسفر تحقيق أجرته لجنة الأوراق المالية والبورصات التابعة للولايات المتحدة الأميركية عن إدانة ماكدوغال لدوره في مشروع وايت ووتر، ولم تتم ملاحقة الزوجين كلينتون، بينما أسفرت 3 تحقيقات منفصلة عن وجود أدلة كافية تربطهما بآخرين في هذه الإدانة المرتبطة بالصفقات العقارية، كما أدين جيم توكر خليفة كلينتون في حكم ولاية أركنساس وحُكم عليه بالسجن لدوره في التزوير في هذه القضية.
وفي وقت لاحق، تمت إدانة سوزان ماكدوغال وحكم عليها بالسجن 18 شهرًا، وبعد إجراء تحقيقات عديدة من قبل الوكالات الأميركية المتخصصة والكونغرس والمدّعي الخاص بشأن هذه المزاعم تمت تبرئة كلينتون في هذه القضية لكن اسمه ظل مرتبطا بها لدى الرأي العام الأميركي.
وبالإضافة إلى وايت ووتر خضع الرئيس كلينتون أيضا للتحقيق في قضيتي تحرش جنسي رفعهما ضده كل من الموظفة السابقة بولاية أركنساس بولا جونز والمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي.
ورغم اتهامات مجلس النواب لكلينتون بالحنث باليمين وعرقلة عمل القضاء بعد انكشاف علاقته الجنسية بالمتدربة مونيكا لوينسكي، برّأه مجلس الشيوخ بعد مساءلته في قضيتي جونز ولوينسكي في فبراير/شباط عام 1999.