بدأت ملامح تشتت واضحة تظهر في صفوف الأغلبية الحكومية المغربية، التي تضم أحزاب التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، وسط تصاعد نبرة التباين في الخطاب السياسي بين مكوناتها. هذه الظاهرة لم تعد مجرد تقديرات أو تحليلات سياسية، بل أصبحت واقعاً ملموساً عبر التصريحات المتضاربة التي صدرت عن بعض القيادات البارزة داخل هذه الأحزاب، مما يطرح تساؤلات جادة حول انسجام التحالف الحكومي ومدى صموده حتى نهاية الولاية التشريعية.
الشرارة التي أعادت إشعال الجدل كانت تصريح نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال ووزير التجهيز والماء، حول ما وصفه بوجود اختلالات و”فساد” في ملف دعم استيراد الأبقار والأغنام. اللافت في الأمر أن بركة لم يوجه سهام النقد إلى أطراف خارج الحكومة، بل حمّل المسؤولية للحكومة نفسها، التي هو جزء منها، ما فتح الباب أمام تأويلات متعددة بشأن الدوافع الحقيقية لهذا الخطاب “الانشقاقي”.
لم تمر سوى أيام حتى برزت أصوات أخرى، هذه المرة من داخل حزب الأصالة والمعاصرة، تنتقد أداء الحكومة وتلمّح إلى وجود اختلالات في تدبير بعض الملفات الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما يُنظر إليه على أنه تكرار لنفس النهج: انتقاد من داخل البيت الحكومي، وكأننا أمام “معارضة من الداخل” أو ما يشبه “حكومة داخل الحكومة”.
ويرى عدد من المراقبين والمحللين السياسيين أن هذه التصريحات ليست وليدة الصدفة، بل تدخل ضمن مناورات مدروسة استعداداً للانتخابات المقبلة. فكل حزب، رغم كونه جزءاً من الائتلاف الحكومي، يدرك أنه سيقف لاحقاً في مواجهة الأحزاب الحليفة نفسها خلال الاستحقاقات الانتخابية، سواء كانت جماعية أو تشريعية. وبالتالي، فإن رسم مسافة سياسية من الحكومة الحالية، وانتقاد أدائها، قد يكون خطوة محسوبة لتمييز الخطاب السياسي وجذب الناخبين.
في هذا السياق، يبدو أن كل حزب يحاول بناء سرديته الخاصة أمام الرأي العام، عبر إبراز الاختلافات وتسليط الضوء على “الاختلالات” التي يُحمّل فيها المسؤولية ضمنياً لحلفائه في الحكومة، وليس لنفسه. وهذا ما يجعل المشهد أشبه بحكومة متداخلة الأدوار: نصفها في موقع التسيير، والنصف الآخر في موقع التشكيك والمساءلة.
و بعيداً عن الحسابات الانتخابية، يكشف هذا الوضع عن هشاشة البنية السياسية للتحالف الحكومي الحالي، والذي قام أساساً على توافقات مصلحية أكثر منها إيديولوجية أو برنامجيّة. غياب أرضية سياسية صلبة مشتركة بين مكوناته، والاكتفاء بحد أدنى من التنسيق البرلماني والتنفيذي، جعل هذا التحالف عرضة للارتباك مع كل منعطف سياسي أو أزمة ظرفية.
وإذا ما استمر هذا النهج من “التنازع الداخلي”، فقد يفقد المواطن الثقة في مصداقية المؤسسات، خاصة حين يرى أن من يُفترض بهم قيادة الحكومة هم أول من يشككون في أدائها. كما أن هذا الانقسام قد يُضعف من قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات جريئة أو تنفيذ إصلاحات هيكلية، خوفاً من ردود الفعل داخل صفوفها نفسها.
و في ضوء ما يجري، تبدو الحكومة المغربية وكأنها تواجه معارضة مزدوجة: واحدة في البرلمان وأخرى من داخلها. وإذا لم يتم احتواء هذه التصدعات سياسياً، عبر إعادة بناء الثقة بين مكوناتها وإعادة ضبط إيقاع الخطاب الرسمي، فإن البلاد قد تتجه نحو مرحلة من “الشلل الناعم” في العمل الحكومي، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات.
الرهان اليوم ليس فقط على التماسك السياسي، بل على القدرة على تقديم خطاب موحد ومشروع حكومي متكامل يُقنع الرأي العام، وإلا فإن سيناريو الانفجار المبكر للتحالف سيبقى وارداً، مع ما يحمله من تداعيات على الاستقرار السياسي والإصلاحات المنتظرة.