في المجتمعات المغاربية، وعلى رأسها المغرب، تحتل كلمة “الحشومة” موقعًا مركزيًا في تشكيل السلوك اليومي، والتفاعل الاجتماعي، بل وحتى في نظرة الفرد لنفسه. فهي ليست مجرّد لفظ عابر يعبر عن التحفّظ أو الخجل، بل منظومة متكاملة من القيم والرقابة والضغوط التي تُمارس باسم الأخلاق، وتتحول إلى أداة اجتماعية قوية تُخضع الفرد منذ الطفولة إلى حدود لا تُرى، لكنها تُحسّ وتُخاف.
“الحشومة” هي ذاك الصوت الداخلي الذي يقول للطفل: “لا تضحك كثيراً، لا تتكلم بصوت مرتفع، لا تعبر عن مشاعرك، لا تسأل كثيراً، لا تجادل الكبار، لا تقترب من المحرمات”، وكأن التعبير عن الذات خطر يجب محاصرته. من خلالها، يُلقَّن الإنسان أن الصمت فضيلة، والامتثال قيمة، والتفكير بصوت مسموع تهوّر يستحق التأديب. كل هذا يحدث تحت غطاء الفضيلة والاحترام، بينما في العمق، يتم سحق شخصية الفرد وتجفيف ينابيع الإبداع فيه.
في ظل هيمنة “الحشومة”، ينشأ مواطن غير قادر على اتخاذ قرارات حرة، لأنه تعوّد على أن يُراقَب في كل خطوة. يشعر بالخجل من جسده، من رغبته، من رأيه، من طموحه، وحتى من حزنه وفرحه. يصبح خائفاً من نظرة الآخر، حذراً إلى درجة الشلل في مواقفه، يبحث عن الرضا الاجتماعي أكثر من سعيه لتحقيق ذاته. وبهذا المعنى، لا تقتل “الحشومة” حرية التعبير فقط، بل تُقيد حرية الوجود.
الأخطر من ذلك، أن “الحشومة” لا تُمارس فقط من قبل الدولة أو الأسرة، بل تتحول إلى آلية مجتمعية يتبنّاها الجميع. الكل يراقب الكل، والكل يقمع الكل. الأم تزرعها في البنت، والأب يفرضها على الابن، والمدرسة تعززها، والحي يُباركها، لتصير في النهاية نوعًا من السجن الجماعي الذي يصعب كسره دون أن يُنظر إلى من يتمرّد على قوانينه كمجنون، أو فاسد، أو مارق.
وإذا كانت المجتمعات الحديثة تقيس تقدمها بقدرة أفرادها على التعبير الحر، والتفكير النقدي، والاختلاف، فإننا ما زلنا نخشى الحديث في الحب، الدين، الجنس، السلطة، أو حتى الطموح المهني علنًا. وهذا وحده كافٍ لفهم حجم الضرر الذي تُحدثه ثقافة “الحشومة” في النفسية العامة، وفي آليات التنمية الاجتماعية.
التحرر من هذه الثقافة لا يعني بالضرورة الانفلات من الأخلاق أو تقاليد المجتمع، بل يعني إعادة تعريف الاحترام بعيدًا عن الخوف، وإعادة بناء علاقة الفرد بمجتمعه على أساس التفاهم لا القمع، وعلى مبدأ الشجاعة لا التستّر. حينها فقط، يمكن أن ننجب أجيالاً قادرة على الإبداع، على المجازفة، وعلى الحلم بلا خجل.