لم تكن الجلسة الأخيرة للبرلمان الإسباني مجرد محطة للتداول الديمقراطي، بل كانت أيضاً مسرحاً لواحدة من أكثر الطروحات السياسية عبثية منذ سنوات، حين اقترح حزب “فوكس” اليميني المتطرف إرسال عناصر من المخابرات الإسبانية للعمل داخل الأراضي المغربية من أجل “الحد من الهجرة”. هذا الاقتراح، الذي قوبل برفض قاطع وسخرية من قبل أحزاب الائتلاف الحكومي، يعكس مجدداً أن بعض دوائر اليمين المتطرف في إسبانيا لم تستوعب بعد أن العلاقات الدولية لا تُدار بعقلية استعمارية بائدة، وأن المغرب اليوم ليس دولة هشّة يمكن التلاعب بها كما في عقود مضت.
هذا الطرح يُبرز افتقار حزب “فوكس” لفهم أساسي لأبجديات السيادة الوطنية، ناهيك عن عدم إدراكه للتحولات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة في العقدين الأخيرين. فالمغرب اليوم، ليس فقط شريكاً اقتصادياً وأمنياً أساسياً لإسبانيا والاتحاد الأوروبي، بل هو أيضاً قوة إقليمية صاعدة تدير ملفاتها السيادية من موقع الندية، لا التبعية. محاولة القفز على هذا الواقع لا تُنتج سوى خطاب شعبوي موجه للاستهلاك الداخلي، لكنه منعدم القيمة على المستوى الدبلوماسي.
قد يبدو من المفارقة أن نفس الحزب الذي يهاجم المغرب اليوم، يتناسى أن حكومة بلاده اضطرت في وقت قريب لإعادة ضبط علاقاتها مع الرباط، بعد أزمات متعددة أبرزها استقبال زعيم جبهة البوليساريو بهوية مزورة. تلك الأزمة التي كادت تعصف بالتعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين، انتهت بزيارة رسمية لرئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز إلى الرباط، حيث أعلن صراحة دعمه للمبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء، وفتح صفحة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل.
المثير للانتباه أن حزب “فوكس” يكرر الخطأ نفسه: التقليل من شأن المغرب، ثم بناء خطاب استعلائي يقوم على فكرة أن شمال إفريقيا ما زالت تحتاج وصاية أوروبية. هذا الخطاب ليس فقط مضللاً، بل يفتقر إلى الذكاء الاستراتيجي. إذ أن أي توتر مع الرباط لا يصب في مصلحة إسبانيا، خاصة في ملفات دقيقة كالهجرة، والتعاون الأمني، ومكافحة الإرهاب، ومراقبة الحدود.
من جهة أخرى، يعكس الموقف الموحد لأحزاب الائتلاف الحكومي الإسباني، رفضاً صريحاً لهذا المقترح، مما يؤكد أن هناك وعياً داخل المؤسسات الرسمية الإسبانية بأهمية الحفاظ على علاقات متوازنة مع المغرب، بعيداً عن مزايدات اليمين المتطرف.
ختاماً، المغرب ليس “لقمة سائغة” كما يتوهم بعض السياسيين في مدريد. إنه دولة ذات سيادة كاملة، وموقع استراتيجي بالغ الأهمية، وفاعل أساسي في استقرار جنوب البحر الأبيض المتوسط. ومن أراد التعاون معه، فالباب مفتوح عبر الاحترام والمصالح المشتركة، لا عبر الاقتراحات التي تعود بعقارب الساعة إلى زمن انتهى ولن يعود.