مبارك فجر
المستعمر يقوم بشق الطرق لربط المركز الجديد “قصر السوق” بالشمال، وقام بهذا الدور الاستيطاني جل الجحافل والفيالق العسكرية (les Légionnaires) التي استدرجت ضمنها بعض العناصر البربرية وغير البربرية في صفوفها واستغلالها واستخدامها لصالحها. وقد ذكر أعمال هذه الفيالق المؤرخ: جورج بلوند (Georges Blond) في مجلة (Historia) تحت عنوان “المشيدون”.. Les constructeurs)) حيث قامت هذه الجحافل بتهدئة سكان الواحة والرحل الذين قاوموا تدخل هذه الجحافل بشدة، “وأخذنا نشاهد هذه الفيالق تحفر في الرمال والأحجار حتى تصل الأرض الصلبة وعليها تبنى الطريق”..
وقد كان بناء الطرق حسب المجلة، منفصلا ومتقطعا وحسب الظروف التي كانت تعترض المعمر، ولم يتم بناؤها وتعبيدها بشكل نهائي إلا في العقد الخامس من القرن العشرين.
وبالإضافة إلى ذلك قامت هذه الجحافل بين سنتي 1927 و1929 بشق نفق في سفح جبال الأطلس الكبير أسموه بـ: Tunnel des Légionnaires)) وهو النفق المعروف اليوم بـ: (غار زعبل)، بعدها، تم في السنة الموالية بناء “جسر” على وادي زيز ما زالت معالمه بادية، لربط مركز قصر السوق بالطريق المنجزة، وبذلك أصبح الاتصال بالشمال الغربي سهلا، بعدما كان منحصرا على الشرق والجنوب.
ومن خلال هذه التطورات التي شهدتها المدينة بدأنا نلاحظ ارتباطها بالخصوص بحرف يدوية كالنجارة وحرف أخرى سيطر اليهود عليها. وفي هذه الأثناء، لوحظ غياب العناصر غير اليهودية بنسبة عالية، وذلك لما كانت نعيشه المنطقة من عزلة وسيطرة وقسوة مناخية.
حضور اليهود وتحركاتهم في منطقة قصر السوق والنواحي في حقبة التوغل الاستعماري
من نتائج إنشاء هذه المراكز الحضرية السابقة الذكر ثراء سريع للجالية اليهودية، ولكل من كان يقوم من بعيد أو قريب بتوزيع بضائع معينة… وكل من تمكن من الحصول على رخصة النقل أو إذن لجلب مواد غذائية كـ: “السكر مثلا”، أصبح “غنيا” في بضع سنوات.
وكان التجار اليهود عامة يتاجرون في السوق السوداء، حتى تجمعت لهم كل الثروات المحلية واحتكروها من تمور وحناء وجلود… ما جعلهم يستقرون في دكاكين تحت الحماية العسكرية الفرنسية، لامتهان حرفهم التقليدية التي كانوا يزاولونها في القصور والقرى… كالصياغة والحدادة والإسكافية وغيرها من الحرف اليدوية. وقد تجمعت لبعضهم ثروات، وأخذوا يستثمرونها في مختلف الحرف والمهن المدرة للربح السريع، حتى أن هذه المكاسب الكبرى جعلتهم يستثمرون في الشاحنات للزيادة في الربح والاستقرار في المراكز الحضرية، وربط علاقات تجارية مع المدن الحضرية الكبرى في الشمال مثل فاس، مكناس والدار البيضاء، وتوصل بعضهم برخص للتنقيب على المعادن بدون أن تكون لهم أدنى معرفة تقنية خصوصا وأن المنطقة كانت تزخر باحتياطات معدنية مهمة شجعت المستعمر على استغلالها وتصديرها، ومع ذلك فقد بقيت الحياة في القصور والقرى معتمدة على النشاط التجاري والفلاحي المتواضع، مع إبقاء العلاقات التجارية مستمرة فيما بين سكان القصور والحاضرة.
وإلى حدود ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان اليهود ما زالوا يحتكرون جل السلع ذات التوزيع الامتيازي والحصري المقنن والذي تتحكم فيه الدولة.. من سكر وشاي وصابون وأسمنت… بقصر السوق وهم كانوا يتحكمون في جلبها وتوزيعها… مما أكسبهم امتيازات مادية مهمة، إذ استطاعوا أن يتحكموا في عقارات المدينة وخاصة امتلاكهم لمنازل عصرية ومتاجر كبيرة تروج جميع السلع من مواد غذائية ومنزلية ومواد البناء والنسيجية والنفطية، حيث هم من كانوا يتحكمون في توزيع المحروقات.. إضافة لامتلاكهم لحرف تقليدية، كالنجارة والسكاكة والخياطة… مما وفر لهم التساكن والعيش إلى جانب سكان قصر السوق المسلمين والمنتمين لجماعتي مدغرة والخنك.
هذا الوضع جعل اليهود بقصر السوق يتكاثرون وينصهرون في المجتمع، حيث أن أبناءهم بعد الاستقلال، ولجوا المدارس العمومية وتعلموا وتم توظيفهم… كما أن عددهم وفر لهم معابد عبرية يتعبدون فيها حيث بلغت ثلاث معابد في مدينة صغيرة كقصر السوق، مازالت تشهد على وجودهم بها وإن انهار منها اثنان بسبب الهشاشة ونوعية بنائها المرتبط بالطوب والطين.
كما أن أرواح موتى اليهود والمسلمين ترقد بسلام في تجاور وسكينة في مقبرتين إلى جانب الطريق المؤدية إلى أحياء المسيرة وعين العاطي بوسط مدينة الرشيدية، يعبر جوارهما، يوميا، الأحياء ولا أحد ينتبه لهذه المفارقة التي تقبلتها السكينة مند عقود، على اعتبار طبيعة المجتمع بالمنطقة المتشبع بروح التسامح والقيم الإسلامية السمحة.
ولشدة تأقلم يهود المنطقة مع البيئة السوسيو- ثقافية (حسب الحسني محمد صحفي) فقد كانت جل القبور الموجودة بهذه المدافن جد بسيطة إلا القليل منها التي زينت بالزليج الأبيض ولا تحمل أية شواهد، وكل ما كتب عليها أسماء أصحابها وتواريخ وفاتهم باللغات العبرية والفرنسية.
في العام 1997 حسب المصدر نفسه، أغلقت أبواب “الميعارة” ورحل الحراس إلى حال سبيلهم تاركين وراءهم ساكني القبور بعد أن لم تعد هناك أية طقوس جنائزية ولا ترانيم صلوات “الترحيم” وصار المكان من ذكريات الماضي التي بصمت بماء من ذهب ذاكرة أهل المدينة بأمجادها وأحداثها ومواقفها الإنسانية النبيلة.
اهتمام المستعمر بساكنة قصر السوق مند التأسيس
يدخل هذا الاهتمام بالأساس في إطار دور المستعمر العسكري لرصد مختلف تحركات القبائل والسكان، ويتضح ذلك من التخطيط العمراني الذي خططه لبناء المدينة، وبشكل عفوي دون مراعاة التوازن الطبيعي وحتى الاقتصادي والاجتماعي لها، لهذا مرت المدينة بفترات بيضاء في تاريخها، إلا أنه وخلال السنوات الأخيرة من المرحلة الاستعمارية وعلى الخصوص مع بداية فجر الاستقلال، أخذت المدينة تنسلخ عن البنايات القديمة التي أوجدها المستعمر، فبدأت تنفتح بشريا وعمرانيا، وارتبط تطورها الاقتصادي والبشري بتقدمها الحضاري، فازداد تركز الإدارات بالمدينة، ونتجت بالتالي علاقة نوعية بين هذه الحاضرة ومعظم قصور الناحية في شكل هجرات وخدمات، بعدما كان الاقتصار على رقعة المركز وبعض الأماكن الحيوية بالنسبة للإدارة الاستعمارية، ما جعل المستعمر يعجل بتنصيب مواصلات كثيفة بالمنطقة، حتى أصبح اتصالها والمدينة سهلا مع النواحي الشمالية والغربية، وأعطت بالتالي نفسا جديدا لانتعاش التجارة والمبادلات التي كانت بطيئة بسبب سياسة المستعمر، بالإضافة للافتقار إلى العوامل المرتبطة والمحركة للنمو والتطور العمراني والاقتصادي.
والجدير بالذكر، أن مدينة قصر السوق رغم عراقة تاريخها، والأدوار الاقتصادية التي لعبتها في القرون الماضية باعتبارها محطة مرور للقوافل التجارية، فإن المدينة ارتبطت ارتباطا وثيقا بالقطاع العسكري الذي فرضه المستعمر عليها، بالإضافة للمعاناة السياسية والاقتصادية والطبيعية، فهي تمثل مركزا للثكنات العسكرية لكونها تقع على مقربة من الحدود الجزائرية.
وبغض النظر عن هذا الدور الاستراتيجي نلاحظ انعكاس السياسة الاستعمارية على المدينة بصفة خاصة، وعلى المنطقة بصفة عامة الشيء الذي جعل إرث المنطقة ضعيفا وعلى أغلب المستويات عند مستهل الاستقلال.
الهوامش:
Résistance Berbere Maroc (1607-1934)
Magazine Historia page 12
Maroc en guerre page 1123