شعب يرنو إلى الحياة، يتحدى المحتل وجلاديه ليصنع الحلم ويعيش الفرح متمسكا بماضيه وتراثه، متعايشا مع واقع معقد وظروف قاسية فرضها الاحتلال بحواجزه العسكرية وجدرانه الإسمنتية العازلة.
هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “فستان العروس” ينقل واقع الحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال، هناك حيث تمضي مراسم العرس أو الخطبة دون وجود العريس الذي غيّبته زنازين الاحتلال، هناك تتم مراسم العرس بكل تفاصيلها، وينتصر الحب على جدران الاحتلال وسجونه.
تختار مخرجة الفيلم الفلسطينية مروة جبارة الطيبي قصتين لعروسين يمكن اعتبارهما نموذجا حيا للمعاناة التي يواجهها الفلسطيني حتى في يوم فرحه، الأولى “صمود” التي اختارت أن تستأجر فستانا لحفلة خطوبتها، والثانية “لبنى” التي اختارت أن تستأجر الفستان لحفل الحنّة؛ الليلة التي تسبق يوم العرس.
تتخلل حالة الانتصار مشاهد الفيلم الذي تم تصويره وإخراجه بكل إبداع بعيون المخرجة الطيبي، التي وضعت تحت المجهر حالة الحب والنضال الفلسطينية الخاصة جدا في كل تفاصيلها وأحداثها.
“صمود” خطيبة الأسير.. صراع على التراث
تظهر الفتاة الفلسطينية صمود سعادات وهي تقود سيارتها إلى السوق، تترجل لتدخل محلا خاصا بالتطريز لتعيد الفستان الذي استأجرته لخطبتها، فقد خطبها عاصم؛ أحد الأسرى في سجون الاحتلال، تعيد الفستان ويجول في مخيلتها سؤال عن تلك الفتاة التي ستقوم باستئجار الفستان من بعدها.
للثوب الفلسطيني قيمة عظيمة لدى النساء هناك، فهو جزء من التراث الذي حاول المعتدي سرقته، وفي كثير من المناسبات والمراجع العالمية حاول المحتل أن ينسبه للتراث اليهودي، لذا فالمرأة الفلسطينية تحافظ عليه كما تحافظ على الأرض.
يُطرّز هذا الثوب يدويا وتستخدم زخارف لأزهار وطيور وأشكال هندسية تحاك بخيط من الحرير، ويختلف الثوب من مدينة لأخرى.
مها السقا صاحبة مشروع التراث الفلسطيني تقوم بتأجير فساتين للفتيات الفلسطينيات لارتدائه في الحفلات والأعراس، في هذه الأثناء تقوم صمود بإطلاعها على تسجيل فيديو لحفلة الخطبة.
تقول مها: هذا النوع من الحفلات وتحمل الفتيات لتلك الظروف يقوّي عزيمة الأسير الفلسطيني، وهو نوع من إظهار الحب والاهتمام. أما صمود فتقول إنما هي فقط ثلاث سنوات في الأسر، وسوف تمرّ سريعا، وإنها تستطيع الانتظار.
من الناصرة إلى بيت لحم.. رحلة مريم العذراء
القصة الأخرى، لفتاة من مدينة الناصرة اسمها لبنى، أحبت شابا من مدينة الخليل أثناء الدراسة، هذه الأمور تبدو عادية، لكن داخل فلسطين لا يبدو الأمر بتلك الحال، فمع وجود الاحتلال تتعقد الأمور.
لبنى كونها من فلسطينيي الداخل تحمل جواز سفر إسرائيلي، أما عبد الله خطيبها فيحمل هوية فلسطينية، ولا يسمح له بدخول الناصرة إلا بتصريح، تأتي لبنى إلى بيت لحم وإلى محل مها بالتحديد لتختار فستان زفافها، وتمر في الطريق على الجدار العازل الذي يحمل كل معاني العنصرية الفجة والقهر.
تصل لبنى إلى المحل وتلتقي بمها، وبالصدفة تختار نفس الثوب الذي اختارته صمود، تلك الأثواب سرديات من حب وصمود. تقوم لبنى بارتداء الثوب وتساعدها مها بلبس طاقية فلسطينية عمرها مئة عام مصنوعة من الذهب والفضة والمرجان، كانت الطاقية تقدم في الماضي مهرا للعروس، التي كلما زاد ثراؤها زادت القطع الذهبية المعلقة عليها.
يشبه الثوب التقليدي التي تلبسه العروس الفلسطينية أثواب الأميرات، فهو غني بتفاصيله ومطرز يدويا يستغرق أشهرا لإنجازه. تخاطب مها لبنى فتقول لها أنت كمريم العذراء جئت من الناصرة إلى بيت لحم. تلك هي ذاكرة المكان.
في هذه الأثناء تلتف مرافقات العروس حولها، وتختلط المشاعر، وتغالب لبنى الدموع، يأتي العريس عبد الله فتحاول الفتيات منعه، لأن رؤية العروس في فستان العرس قبل العرس “فأل سيء”، لكن الظروف الاستثنائية تبيح المحظورات.
تقول لبنى: عند الطُّلبة (طَلب العروس/ الخطبة) لم يتمكن عبد الله من المجيء للناصرة، بل حضر كبار السن من أهله الذين سُمح لهم بأخذ التصاريح، لذا تواصل عبد الله معهم عبر “سكايب”، أما لاريسا أخت العروس فتقول إن الاحتلال يحاول إذلال العريس والمماطلة في طلب التصريح.
“لن يَخْلد الاحتلال”.. لُحمة الشعب الواحد
في الناصرة وتحديدا في خان الباشا حيث تعانق أجراس الكنائس صوت الأذان لتحدثنا عن التسامح الديني الذي ساد بين الفلسطينيين باختلاف عقائدهم؛ تظهر السيدة باسمة والدة العروس لبنى، تجوب السوق وتقوم بشراء تجهيزات للعرس.
تقول باسمة “منذ خطوبة لبنى وأنا مشغولة بالتحضير لأُسعد ابنتي في ليلة عرسها كما تفعل أي أم لابنتها”. تقوم بشراء البهارات وملبس اللوز وبعض الحاجيات لعشاء حفلة وداع العروس أو ما يسمى ليلة الحنّة.
أما والد العروس محمد عبد الهادي فيقول إنه سعيد بزواج لبنى، لكنه حزين لفراقها، ويضيف: تكبر البنت مثل الشجر، لكن الشجر يبقى والبنت تذهب بعيدا، لا يمكنني الوقوف أمام سعادتها واختيارها، خوفي عليها هو بسبب البعد والحواجز، وبالرغم من ذلك نحن شعب واحد فالطبيعي أن يتزوج ابن الناصرة ببنت الخليل أو رام الله، لكن الحواجز هي التي فرقتنا، لن يخلد الاحتلال.. سيزول يوما.
تقول باسمة “نحن في الناصرة نقوم يوم وداع العروس بالتجمع؛ الأقرباء والجارات ونقوم بلف ورق العنب وعمل الكُبّة والمعجنات وأشياء كثيرة، وتكون لمّة الأحبة جميلة”، وفي أثناء إعداد الطعام تُغنّي النسوة ويرقصن.
زيانة العريس وليلة الحناء
في بيت العريس عبد الله تجري التحضيرات أيضا، ويقوم أهله بتحضير سِلال الورد والحلوى، لكن أخت العريس مارسيل تقول إن “فرحتنا ناقصة بسبب وجود أخي الآخر بالمعتقل لذا لن نعلق الأضواء خارج البيت”.
يقوم أقارب العريس بتحضير الطعام لهم من باب المشاركة بالفرحة، فالفلسطينيون نسيج مجتمعي متماسك ومترابط، بينما تقوم قريبات العريس بالغناء التقليدي في هذه المناسبات.
وفي الليل تكون “زيانة العريس” أو تزيين العريس وحمامه، حيث يقوم أصحابه وأقاربه بالحلاقة له بجوّ من المرح والبهجة، ترافقهم الأغاني الشعبية والوطنية التي تعبر عن التمسك بالأرض ورفض المحتل.
يقابلها “زيانة العريس” في بيت العروس ليلة الحناء، حيث يقوم أهل العريس بأخذ سلة الحناء، وتذهب مجموعة من النسوة لبيت العروس، وهناك يقمن بنقش الحناء للعروس، كما يأخذون لها ثوبا مطرزا، وتوضع ليرات الذهب العُصملي على رأسها، ويُكتب بالحناء اسم العريس على يدها، وهذا يعني أنها أصبحت من أهله.
تقول أخت العريس: هذا كله لن نستطيع فعله بسبب حواجز الاحتلال، لكن أهل لبنى تعهدوا أن يقوموا بدورنا الليلة، ويأخذوا دَور أهل العريس. وهذا ما وقع بالفعل.
في صباح هذا اليوم سيقام العرس في مدينة الناصرة، تذهب العروس وأمها وأخواتها للصالون من أجل الزينة، وفي تلك الأثناء يتصل العريس عبد الله بعروسه لبنى فتجهش بالبكاء، بينما تتمنى والدتها حضور عبد الله، فالفرحة لا تكتمل إلا بوجود العريس، غير أن الاحتلال ما زال حتى هذه اللحظة يرفض منح عبد الله تصريحا لزيارة مدينة عروسته. تعلق لاريسا قائلة: الزواج بأجنبي هنا أسهل من الزواج بشاب من الضفة أو غزة، إنه وضع مريض.
عريس في صندوق سيارة.. تحدي الحواجز
في هذا اليوم قرر العريس عبد الله أن يغامر ويدخل إلى الناصرة بدون إذن من سلطات الكيان الصهيوني، فيستقل السيارة برفقة أربعة من أبناء خالته، ينتقلون نحو رام الله، وعند وصولهم كانت تنتظرهم سيارة ثانية حيث حملتهم لمنطقة عربية أخرى.
يقول عبد الله وضعنا أغراضنا في سيارة، وركبنا في صندوق السيارة، ثم أغلقت كراسي السيارة وانطلقت باتجاه حاجز الاحتلال، بالرغم من صعوبة الموقف لكنهم كانوا يأخذون الأمر بشيء من المرح.
استغرق العبور عشر دقائق وقطعوا كيلومترين على هذا الحال، وكان نجاحهم بتوفيق الله، لأن اكتشافهم من قبل جيش الاحتلال مجازفة كبيرة، بعد ذلك عادوا للسيارة التي حملت الأغراض واتجهوا لبيت العروس.
كان الأمل يحدو لبنى وأمها في أن يأتي عبد الله في تلك الليلة، كانت العروس “تعلم يقينا أنه حريص على المجيء”، في السيارة كان عبد الله يقترب من حلمه وكنزه شيئا فشيئا، فلطالما حارب من أجل هذا الحب وهذا الزواج.
يقول فؤاد أخو العروس: رغم البعد والحواجز إلا أننا وضعنا عاداتنا وتقاليدنا جانبا لينتصر الحب.
في الصالون، كانت لحظة تخطف الأنفاس، ها هو عبد الله ماثل أمام لبنى، في مشهد سينمائي بديع، تغمرها السعادة فقد اكتملت فرحتها هذه الليلة “فالأماني المشروعة والحقوق الطبيعية تصبح أحلاما صعبة المنال في ظل الاحتلال”.
أهل العروس يتولون مهمة أهل العريس
في قاعة الاحتفال كان أهل لبنى هم جاهة العريس عبد الله. تقول والدة العروس: في الناصرة تكون القاعة لكل من أهل العروس والعريس، لكن مكان أهل العريس فارغ هذه الليلة، ومع ذلك فإن مراسم العرس تقام كما هي العادات والتقاليد ويُغنّي الناس ويرقصون.
في اليوم الثاني يعود عبد الله لمدينة دورا بالخليل ليكمل العرس بين أهله، هذه الليلة تسمى سهرة العريس، ويحتفل بين أهله وأصحابه في تلك الليلة، حيث يقدم طعام العرس وعادة ما يكون “المنسف” حسب عادات أهل الخليل، وهو عبارة عن أرز ولحم ولبن مطبوخ بالإضافة إلى خبز الشراك.
وفي الصباح يذهب أهل العريس إلى الناصرة لتسلم العروس، وهذا يعني في العادات الفلسطينية أن العروس خرجت من عهدة أهلها لكنف زوجها وبات هو من يتحمل مسؤليتها وصونها، ويتعهد أهل العريس لأبيها أن تكون بالأمان والحفظ.
تنطلق الحافلة الساعة الثامنة صباحا، كبار السن ومن يسمح لهم بالعبور فقط هم من يذهبون لحاجز الاحتلال جنوبي القدس، لكن جنود الاحتلال يرفضون دخولهم من هذا المكان.
يذهبون لحاجز آخر يفصل بيت لحم عن القدس، لكن الجنود هناك يخضعون كل من في الحافلة للتفتيش الجسدي، وهو نوع من الإذلال والتعطيل لكن المحتفلين لا يبالون بكل هذا.
ويعودون إلى الحافلة بعد التفتيش، وتبدأ النساء بالغناء بكل سعادة وبهجة، يصلون إلى الناصرة الساعة الثالثة عصرا، وهو وقت طويل جدا يقوم والد العريس وليد السويطي بطلب أخذ العروس متعهدا بوضعها في عينيه، ويتأسف لعدم وجود عبد الله، يردّ والد العروس بأنه يتفهم الظرف وأنه يعطيهم أغلى ما يملك؛ ابنته لبنى.
تعديد المناقب.. الأمجاد المتوارثة
داخل بيت العروس تزغرد النسوة فأهل العروس يزغردن للعروس، ويذكرن محاسنها وجمالها وتردّ النسوة من طرف العريس بزغاريد تعدد مناقب وحسنات العريس، وهذا جزء من عادات متوارثة.
يدخل والد العروس ويضع الطرحة البيضاء على رأسها بينما هي ترتدي فستانا أبيض عصريا، ثم تدخل السيارة وينطلقون تجاه أحد حواجز الاحتلال، وهناك ينتظرها عريسها.
ووسط فرح الأهل جميعا يُزف عبد الله أمام عروسه، رغم حضور غير مرغوب فيه من جنود الاحتلال الذين يراقبون هذا كله عن مسافة قريبة.
لا يأبه الفلسطينيون بهم ويكملون طقوس الزواج، يضع أخو العروس العباءة على كتف العروس، كنوع من التكريم والتقدير لها ويسلمها للعريس بعد ذلك تذهب الحافلات إلى مدينة الخليل ويُقام عرس يحضره أهل العريس وأهل العروس حسب التقاليد والعادات الفلسطينية.
يكتمل الفيلم بآخر مشهد بعد العرس، حيث تعود لبنى حاملة فستان عرسها بين يديها تعيده في مكانه، وترحل وهي تحمل ذكرياتها الجميلة وأحلامها التي أصبحت حقيقة.
الكاتب : سناء نصر الله
المصدر : الجزيرة