في خضم الجدل الذي فجّرته قضية الدعم العمومي لمستوردي المواشي، والذي بلغ حسب تقديرات غير رسمية حوالي 13 مليار درهم دون أن ينعكس على أسعار السوق أو القدرة الشرائية للمواطنين، يعود إلى الواجهة سؤال جوهري: هل ما زال البرلمان المغربي يمارس وظيفته الدستورية كمؤسسة للرقابة والمساءلة، أم أنه بات مجرد غرفة ملحقة بالسلطة التنفيذية، تصادق وتصفّق أكثر مما تساءل وتحاسب؟
هذا السؤال لم يعد مجرد أطروحة نظرية في كتاب علوم سياسية، بل بات واقعاً ملموساً، خاصة بعد تعاطي مكونات الأغلبية مع مبادرة المعارضة لتشكيل لجنة تقصي الحقائق. فبدل التفاعل الإيجابي مع هذه المبادرة الدستورية، انبرى التحالف الحكومي إلى استخدام تفوقه العددي لمواجهة المساءلة بمناورة إجرائية: تشكيل مهمة استطلاعية لا ترقى لا من حيث القيمة القانونية ولا من حيث الأثر السياسي لما تتيحه لجنة تقصي الحقائق.
الدستور المغربي واضح في تحديد آليات الرقابة البرلمانية: لجنة تقصي الحقائق تُطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب (الفصل 67)، وهي آلية لها صلاحيات حقيقية، منها الاستماع الإجباري للمسؤولين تحت القسم، وإحالة النتائج إلى القضاء أو الجهات المختصة. أما المهمة الاستطلاعية المؤقتة، فهي مجرد أداة لجمع المعلومات، دون قوة إلزامية أو آثار قضائية.
من هذا المنظور، يمكن القول إن ما جرى لا يمثل فقط فشلاً في التفاعل مع مبادرة سياسية مسؤولة، بل يعكس إرادة سياسية لتعطيل وظيفة الرقابة ذاتها، وتحويل البرلمان من مؤسسة دستورية إلى أداة لتدبير التوازنات الحزبية والمناورات التكتيكية.
الأخطر في هذا المشهد ليس فقط تعطيل آلية رقابية، بل ترسيخ منطق خطير في الممارسة الديمقراطية: الأغلبية العددية لا تعني الهيمنة على مؤسسات الدولة، بل تفرض عليها مسؤولية مضاعفة في ضمان توازن السلط واحترام دور المعارضة كمكون جوهري في أي نظام ديمقراطي سليم.
لكن التحالف الحكومي الحالي، الذي جمع بين الأحزاب الثلاثة الأولى انتخابياً، اختار الاصطفاف خلف السلطة التنفيذية، بدل أن يكون حارساً على أداءها. وهو ما خلق مشهداً برلمانياً يفتقد إلى الحد الأدنى من الحيوية الرقابية، ويحوّل البرلمان إلى مؤسسة باهتة، تُدير ظهرها لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
في العمق، ما يُثير قلق الرأي العام ليس فقط غياب نتائج ملموسة لهذا الدعم السخي لمستوردي المواشي، بل تضارب التصريحات الحكومية، وغياب الشفافية حول أسماء المستفيدين وشروط الاستفادة، وغياب الأثر الاقتصادي الموعود. وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التأويلات والشكوك، خصوصاً مع محاولات الالتفاف على لجنة تقصي الحقائق التي كانت لتكون، لو شُكّلت، أداة فعلية لفضح الاختلالات وتحديد المسؤوليات.
التعامل مع الرقابة بمنطق الأغلبية والمعارضة يُفرغها من مضمونها، ويحوّلها إلى أداة انتقائية تُستعمل فقط حين تخدم الحسابات الحزبية. والواقع أن المساءلة يجب أن تكون فوق كل انتماء، لأنها تتعلق بحماية المال العام، وضمان ثقة المواطن في مؤسساته، واسترجاع هيبة البرلمان كمؤسسة تمثل إرادة الشعب لا إرادة الحكومة.
ما يحدث اليوم ليس فقط أزمة رقابة، بل أزمة ثقة في المؤسسات، بل وأزمة بنيوية في العلاقة بين السلط. فحين تُمنح الحكومة تفويضاً شعبياً ثم تستخدمه لحماية مصالح لوبيات بعينها تحت غطاء “الدعم”، وتتهرب من المساءلة، نكون أمام مأزق سياسي وأخلاقي وقانوني خطير.
والأخطر من ذلك، أن الأغلبية الحالية، التي أجهضت لجنة تقصي الحقائق، قد تجد نفسها غداً في موقع المعارضة، تواجه نفس الانغلاق والتعطيل. والدرس السياسي هنا واضح: من لا يُمارس الرقابة اليوم، قد يُمنع منها غداً.
ومن أبرز الأصوات التي نبهت إلى خطورة هذا الانزلاق، نقرأ مقال ذ. نبيل بنعبد الله، الذي وصف ما جرى بأنه “حيلة مفضوحة”، بل “خديعة ماكرة”، الهدف منها هو إجهاض مبادرة دستورية صريحة، ومحاولة لتبخيس وظيفة البرلمان عبر الالتفاف على لجنة تقصي الحقائق وتقديم مهمة استطلاعية محدودة لا تُرتب أي أثر قانوني أو قضائي. ويخلص بنعبد الله إلى أن “من لا يخشى شيئاً لا يتهرب من الحقيقة”، متسائلاً: “لماذا تخاف الحكومة من لجنة تقصي الحقائق إذا كانت شفافة فعلاً؟”.
من لا يخاف شيئاً، لا يتهرّب من الحقيقة. فإذا كانت الحكومة متأكدة من نزاهتها، فلماذا تتهرب من لجنة تقصي الحقائق؟ لماذا تُصر على استبدالها بآلية أقل فعالية وتأثيراً؟ هل هناك ما يجب إخفاؤه عن أعين المواطنين؟ أسئلة تُطرح بمرارة في أوساط الرأي العام، الذي لم يعد يرضى بالمسكنات، ولا يكتفي بالتقارير الإخبارية. لقد ولى زمن الصمت، وحان وقت الحقيقة… كاملة.