“بريجنسكي” في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” ناقش التوجهات الأمريكية من الناحية الإستراتيجية في كيفية بقاء الهيمنة الأمريكية على العالم من منطلقات جيوبولتيكية، وحدد طبيعة القادم من الدول بين دول عظمى ودول محورية أو دول إرتكاز للدول عظمى لكي تصبح أمبراطورية، وكتب حول توجهات السياسة الامريكية المستقبلية في سبيل منع السيطرة “الروسية-الصينية” على الجيوبولتيك “الأورواسي” الذي سيشكل الإقتصاد العالمي وبما يسمح لتكون “الصين” مركزه.
ينقل “بريجنسكي” في كتابه عن المحلل البريطاني الجيوسياسي “هالفورد ماكيندز” قوله “من يحكم اوروبا الشرقية يسيطر على قلب المنطقة، ومن يحكمها يحكم جزيرة العالم (أوراسيا) ومن يحكم جزيرة العالم يُهيمن على العالم”، لذلك معادلة “اوكرانيا” هي معادلة تاريخية ضمن مفهوم التحكم والسيطرة العالمية وبدونها لن تُصبح “روسيا” من جديد إمبراطورية.
نلاحظ خلال عقدين من الزمن كيف تمسك امريكا خيوط الجغرافيا السياسية بقوة وتركز على الدول المهمة التي ذكرها “بريجينسكي” في كتابه والتي ستحدث تغيرات على مستوى العالم، وهنا لن اتحدث عن “اوروبا” و”اليابان” والتي أكد على أهميتها، وأهمية بقاء “الإتحاد الاوروبي” متحدا لأن ذلك سيخدم الإستراتيجية الأمريكية، وقال أن “اليابان” مؤهلة هي و”ألمانيا” لتصبح قوى عظمى مؤثرة في العالم ولذلك يجب أن تبقى حليفة وفي مربع أمريكا، وهنا الحلف بالنسبة لأمريكا يعني التبعية.
الجيوبولتيك الذي ركزت عليه امريكا بقوة كمحور أول هو في الدول المحيطة بِ “روسيا” او ما يسمى “آسيا الوسطى” الى جانب “اوكرانيا” و”إيران” و”تركيا”، ومحاولة محاصرة “روسيا” ومنع تواصلها الجغرافي المباشر مع “إيران” عبر “أذربيجان وأرمينا وجورجيا” حيث تُهيمن أمريكا على هذه الدول بطريقة أو بأخرى، خلال ذلك إعْتَقدَ البعض أن الإنسحاب من “أفغانستان” وسابقا “العراق” ان “امريكا” تتراجع في جيوبولتيك “الشرق الاوسط”، لكنه ثبت انه تراجع نحو ترتيب جديد يخدم استراتيجية بقاء الهيمنة والسيطرة خاصة أن ما حدث في “العراق” ليس سوى إعادة إنتشار وسيطرة عبر قوى محلية، كمحور ثاني، أما المحور الثالث المركزي هو التوجه الأمريكي لمحاصرة “الصين” عبر “الهند ودول شرق آسيا”.
من الواضح أن ما تقوم فيه “أمريكا” في محوريها الأول والثاني يهدف إلى تعزيز المحور الثالث في منع “الصين” من أن تُهيمن على جزيرة العالم “أوراسيا”، فكانت الحرب “الروسية- الأوكرانية”، وكان الربيع العربي وذيوله المستمرة حيث تم تدمير الدول المركزية العربية لصالح رفع مكانة بعض الدول الجانبية لتصبح صاحبة القرار في الدول العربية، وأخيرا مشروع طريق “الهند- أوروبا” الذي يستدعي “التطبيع” بين دولتي “إسرائيل والسعودية” لأجل بسط هيمنة تامة على بعض دول “غرب أسيا” وربطها إقتصاديا مع أوروبا ومنافسة خطة “الصين” الإستراتيجية “طريق واحد وحزام واحد”.
ضمن الواقع “الجيوبولتيكي” المرسوم أمريكيا نرى أن منطقة غرب آسيا “الشرق الأوسط” يأخذ بعدا مهما ومركزيا في إعادة ترتيبه وبما يخدم التوجهات الإستراتيجية الأمريكية لبقائها إمبراطورية مُهيمنة على العالم، لذلك عملت على خطين متوازنين، الأول خط
التطبيع “الخليجي الإسرائيلي” وبما يؤسس لإنفتاح إقتصادي يتبعه حلف سياسي وأمني في مواجهة “الصين” وإمكانية أن يُشكل حلف آخر عماده “روسيا و”إيران”، والخط الثاني ما يحصل في “سوريا” من إعادة لمحاولة تفتيت الدولة السورية بعد أن دمرتها بمسمى “الثورة” وحاصرتها بمسمى قانون “قيصر” وبتمويل ودعم “قطري” سابق ومستمر ولا يزال يعمل ويخدم تلك السياسة بعكس بعض الدول الأخرى التي أعادت العلاقات مع “سوريا”، ويأتي ذلك لمنع “الصين” من الوصول للبحر الأبيض المتوسط وعبره إلى “أوروبا” عبر “سوريا” فيما يُعرف بخطة “الطريق الواحد والحزام الواحد”.
زيارة الرئيس “بشار الأسد” إلى “الصين” العاجلة حيث تم نقله بطائرة رئاسية “صينية” والتي أدت لتوقيع إتفاقيات إستراتيجية بين “الصين وسوريا” تؤكد أن صراع الجيوبولتيك يتسارع وسيأخذ أبعاد بمفهوم “الأحلاف”
لاحقا ويؤسس لحرب “باردة” جديدة تحاول “أمريكا” بكل قوتها إعادتها، بعكس “الصين” و “روسيا” اللتان تحاولان الإبقاء على مفهوم الإنفتاح وعدم وضع أسوار عالية بين الدول، وبين الإنفتاح والأسوار ستحدث حروب وستسيل دماء بدأت في “أوكرانيا” وكما يبدو ستمر في “غرب آسيا” وستصل في النهاية إلى “الصين”، لأن السياسة الأمريكية للهيمنة والسيطرة ومنذ أن تأسست هذه الدولة قائمة على إضعاف الأخرين عبر حصارهم إقتصاديا ومن ثم تدمير مقدراتهم الإقتصادية والعسكرية، بل تفتيتهم إلى دويلات إذا لم تستطيع تطويعهم في خدمة الأهداف الأمريكية.
الفلسطيني وقضيته ضمن السياق أعلاه هو ظِل جندي في “رقعة الشطرنج الأمريكية”، وأهميته تكمن في منع إنسياق “إسرائيل” نحو الدولة الثنائية القومية لبقاءها دولة “يهودية” نقية تخدم الأهداف التي تأسست لأجلها بحيث تؤدي وظيفتها في الجيوبولتيك في “غرب آسيا”،
خاصة أن سيطرة “اليمين المتطرف” الجديد على حكومة “إسرائيل” سيسرع التوجه نحو ضم الضفة والقدس نهائيا وبما يؤسس لدولة “أبارتهيد” ثنائية القومية مما سيحولها إلى دولة تُشكل “عبء” ثقيل على السياسات الأمريكية والغربية في المنطقة ويمنع التوجهات نحو الإنفتاح والتطبيع مع دول الخليج والإعتدال العربي في سبيل خلق “سور” عالي أمام الطموحات “الصينية” والتوجهات “الروسية” وفي نفس الوقت محاصرة “إيران” ومنع تمددها في المنطقة بإعتبارها حليف إستراتيجي لِ “الصين” وحليف عسكري وإقتصادي لِ “روسيا”.
أخيرا، لو كان التوجه الأمريكي في منطقتنا يهدف لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها “القدس الشريف” لقلنا أن التساوق مع المخططات الأمريكية له ما يبرره، وأن مصلحة الفلسطيني في التحرر والإستقلال أهم بكثير من كل صراع “الجيوبولتيك”، ولكن “أمريكا” لم تُفكر يوما في أن يكون للفلسطيني دولة، بل كانت تعمل ولا تزال على مفهوم “الديموغرافيا” وليس “الجيوغرافيا”، فهي تريد أن يحكم الفلسطيني نفسه في جغرافيا محدودة ومحاصرة ومقيدة بإتفاقيات إقتصادية وأمنية وثقافية وإجتماعية مع دولة “إسرائيل” بحيث لا يُمكن الحديث عن وجود أي نوع من أنواع “السيادة” التي هي أساس تشكيل وتأسيس الدول، لذلك تعمل أمريكا على أن تكون القيادة الفلسطينية جسرا للتطبيع لتشكيل جغرافيا في منطقتنا هدفها خلق سور عالي في وجه “الصين”، وعلى القيادة الرسمية والشرعية الفلسطينية أن لا تكون جزءا من هذا الصراع الجيوبولتيكي وبحيث تخدم طرف على حساب طرف آخر، بل عليها أن ترفض أي شيء لا يؤدي إلى سيادة كاملة في دولة حدودها واضحة ومستندة لقرارات الشرعية الدولية.
وبين “الأسوار” و “الإنفتاح” هناك بون شاسع تستطيع القيادة الفلسطينية إستغلاله من خلال التمسك بعدم إعطاء شرعية لأي شيء لا يخدم هدف الحرية والإستقلال شرط أن تكون الضمانات لأي موافقة وعلى أي شيء دولية مُلزمة تكون “الصين” و “روسيا” جزءاً منها، وعدم الإرتهان مرة أخرى للوعود الأمريكية التي ثبت أنها ليست سوى خِداع ووهم يهدف لخدمة التوجهات الأمريكية في تشكيل أحلاف لمواجهة “الصين” والسيطرة الإقتصادية وبالذات على الطاقة وطرق التجارة البرية والبحرية.