بقلم..ذ محمد تورشين
محتويات
تحاول هذه الورقة استعراض وتحليل أسباب ودوافع القاهرة لتنظيم مؤتمر للطيف السياسي السوداني، وتداعيات ذلك على القوى السياسية السودانية التي وجدت صعوبات جمة في إيجاد آلية سياسية لتنسيق مواقفها وهو ما يعكس قدر التباين في وجهات النظر بينهم.اختُتم بالعاصمة المصرية، القاهرة، مؤتمر القوى السياسية حول مناقشة القضايا السياسي الخلافية وكذلك مسألة إنهاء الحرب وإيصال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين وبحث فرص استئناف المفاوضات الجيش وقوات الدعم السريع وإطلاق عملية سياسية شاملة تفضي إلى مرحلة انتقالية في السودان. لم تتوصل القوى السياسية المشاركة في مؤتمر القاهرة إلى تفاهمات كما كان متوقعًا. برزت الخلافات برفض بعض القوى السياسية، التوقيع على البيان الختامي، تحديدًا حركات الكفاح المسلح الموقِّعة على اتفاق جوبا، الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة، والعدل المساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وزير المالية، وتحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، ومحمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى للبجا، والتجاني سيسي وآخرين، وذلك لأن البيان الختامي للمؤتمر لم يستصحب ملاحظاتها وتعديلاتها وبالتالي فمواقف القوى السياسية السودانية تعكس قدر التباين في وجهات النظر بينها.من خلال هذه الورقة نحاول استعراض وتحليل أسباب ودوافع القاهرة لتنظيم المؤتمر وتداعياته على القوى السياسية السودانية.أبرز المبادرات الإقليمية والدولية لوقف الاقتتال في السودانظل اختلاف القوى السياسية السودانية حول قضايا البلاد المتفاوتة منذ فجر الاستقلال عام 1956، لكن ما حدث من تباعد وانشطار وتنافر بين هذه القوى خلال فترة الانتقال التي أعقبت سقوط نظام الرئيس السابق، عمر البشير، في الـ11 من أبريل/نيسان 2019، لم يُشهد له مثيل؛ إذ تسبب بشكل مباشر في اندلاع الحرب المحتدمة حاليًّا بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، منذ 15 أبريل/نيسان 2023. طرحت أطراف دولية وإقليمية 9 مبادرات لوقف الحرب واستئناف العملية السياسية واستكمال الانتقال لكن جميعها لم تصل إلى ذلك، ربما يعود ذلك إلى تعدد المنابر وغياب الإرادة لدى بعض الأطراف في الوصول إلى تفاهمات تضعف تأثيرهم على المشهد(1).فما أبرز المبادرات الإقليمية والدولية لحلحلة الأزمة ووقف الحرب في السودان؟أولًا: منبر مفاوضات جدة “برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة”بدأ أعماله في مايو/أيار 2023 حين التقى وسطاء، سعوديون وأميركيون، بوفدي “قوات الدعم السريع” والقوات المسلحة السودانية، بهدف “تقليل التوتر، وإعداد الأرضية للحوار، والاتفاق على هدنة تسعى إلى وقف دائم لإطلاق النار، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية”. وقَّع الطرفان المتحاربان إعلان جدة الإنساني لحماية المدنيين، في 12 مايو/أيار 2023، حيث وُضعت مجموعة من الالتزامات تهدف لتقليل آثار الحرب على المدنيين، ولكن لم يتم تنفيذ بنود هذا الإعلان، بل استغلته “قوات الدعم السريع” لزيادة تمددها على الأرض والاستيلاء على مزيد من الأعيان المدنية(2).من أبرز نقاط إعلان جدة وضع الأولوية لمصلحة الشعب السوداني وسلامته، وحماية المدنيين في جميع الأوقات، بما في ذلك السماح للمدنيين بمغادرة مناطق القتال بمفردهم، والالتزام بالقانون الإنساني الدولي مع التمييز بين المدنيين والمقاتلين والأهداف المدنية والعسكرية والامتناع عن أي هجوم قد يتسبب في إلحاق ضرر بالمدنيين، واتخاذ الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الأذى ضد المدنيين. وقد وصل منبر جدة إلى أكثر من 11 اتفاق هدنة بين الأطراف، لكن لم يتم احترام أي منها قبل أن يتوقف عن أعماله، في ديسمبر/كانون الأول 2023(3).مؤخرًا، وصل نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، 7 يوليو/تموز 2024، إلى مدينة بورتسودان، في أول زيارة لمسؤول سعودي إلى السودان، منذ اندلاع الحرب بين الجيش و”قوات الدعم السريع”، في 15 أبريل/نيسان 2023. والتقى الخريجي، رئيس مجلس السيادة، الفريق الأول الركن عبد الفتاح البرهان، حيث أكد حرص الرياض على عودة الأمن والاستقرار للسودان، وما يتطلبه ذلك من تهدئة وتغليب للحكمة وضبط النفس، والحرص على استئناف المفاوضات وإبداء المرونة والتجاوب مع المبادرات الإيجابية والإنسانية. كما أكد ترحيب المملكة ودعمها لجميع الجهود الأممية والدولية الهادفة إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، وللجهود الإنسانية الرامية إلى تخفيف معاناة الشعب السوداني(4).ثانيًا: مبادرة الاتحاد الإفريقيفي مايو/أيار 2023، أعلن الاتحاد الإفريقي خارطة طريق لحل النزاع في السودان. وكان الاتحاد الإفريقي قد أنشأ آلية موسعة تضم ممثلين من الآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الإفريقي و”الإيغاد” (الهيئة الحكومية للتنمية التي تضم دول شرق إفريقيا) وبعثة الأمم المتحدة “يونيتامس” بالإضافة إلى جامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والدول الإفريقية الأعضاء في مجلس الأمن، ودول جوار السودان (جمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، ومصر، وإريتريا، وإثيوبيا، وليبيا، وجنوب السودان)، والدول المعينة من قبل السلطة التنفيذية لشرق إفريقيا للتفاوض مع الأطراف المتحاربة في السودان وتشمل (جنوب السودان، وكينيا، وجيبوتي)، وجزر القمر رئيسًا للاتحاد الإفريقي، والآلية الرباعية التي كانت معنية بتيسير التفاوض في السودان، وتشمل (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة)، والترويكا المعنية بالشأن السوداني (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، النرويج)، بالإضافة إلى ألمانيا وقطر. لم تعقد الآلية الموسعة أي اجتماع مباشر ولم يوضع أي إطار منهجي لعملها، ولم يتم أخذها على محمل الجد حتى تجاوزتها الأحداث واستعاضت أطرافها بالعمل على مبادراتها المستقلة(5).ثالثًا: مبادرة الإيغادفي أبريل/نيسان 2023، بدأت الإيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية) جهودها للوساطة في الأزمة السودانية، وقررت إنشاء آلية رئاسية للتوسط لإحلال السلام في السودان، برئاسة دولة جنوب السودان، وضمَّت الآلية أيضًا جيبوتي وكينيا، ولاحقًا تم توسيع الآلية لتشمل إثيوبيا لكن تم نقل الرئاسة إلى كينيا بشكل غير متفق عليه في قمة رؤساء “الإيغاد” التي انعقدت في جيبوتي، في يونيو/حزيران 2023، وهو ما أدى إلى خلافات واعتراضات نتج عنها تعطيل عمل آلية الإيغاد(6).كانت المبادرة تهدف في الأصل إلى تيسير الحوار بين طرفي الحرب وتمكينهما من عقد اجتماع مباشر بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو. جدَّدت سكرتارية الإيغاد سعيها لتنظيم لقاء مباشر بين الجنرالين وقدمت الدعوة، في ديسمبر/كانون الأول 2023، لعقد لقاء مباشر بينهما في جيبوتي، قبل أن تعود وتعتذر عنه وذلك باعتذار قائد “الدعم السريع” لعدم قدرته على الوصول إلى جيبوتي لأسباب فنية، وقد اتضح لاحقًا أنه في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، مفضِّلًا لقاء تحالف “تقدم” وتوقيع اتفاق مع رئيس الوزراء السابق، عبد الله حموك. على إثر ذلك، علَّقت الحكومة السودانية عضويتها في الإيغاد وانتهت تلك الجهود دون تحقيق أي نتائج إيجابية بشأن الاقتتال في السودان(7).رابعًا: مبادرة دول جوار السودانفي 13 يوليو/تموز 2023، بادرت مصر إلى بذل جهد مشترك بين الدول المجاورة للسودان لإنهاء الحرب، واستضافت قمة رئاسية للدول المجاورة بهدف تحقيق “وقف إطلاق النار، وفتح ممرات آمنة، وتقديم المساعدات، وإجراء حوار شامل، وإنشاء آلية للتواصل مع طرفي النزاع”. تبع ذلك اجتماع على المستوى الوزاري في تشاد، بتاريخ 7 أغسطس 2023، لإنشاء آلية تنفيذية. لكن لم تتواصل أعمال المبادرة وتوقفت دون إصدار أي توضيحات من السلطات المصرية(8).خامسًا: مبادرة الجامعة العربيةأعلن الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، في مارس 2024، استعداد الجامعة لاستضافة كافة الأطراف السودانية لإيجاد حل ضمن ثوابت الجامعة التي تشمل الحفاظ على وحدة أراضي السودان وسيادته ومؤسساته ومقدراته، وتحقيق وقف فوري لإطلاق النار لاحتواء الكارثة. وعقدت الجامعة العربية اجتماعًا لاحقًا ضم كل الأطراف الدولية المعنية في يونيو/حزيران 2024، لتنسيق الجهود بشأن إيقاف الحرب في السودان. وكان بين المشاركين ممثلون من جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية في القرن الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، والبحرين (الرئيس الحالي للقمة العربية)، وموريتانيا (التي تترأس الاتحاد الإفريقي)، وجيبوتي التي تترأس “الإيغاد”، لكن المبادرة لم تجد الاستجابة من طرفي النزاع في السودان(9).سادسًا: مبادرة الحكومة الليبيةأعلن عبد الحميد الدبيبة، رئيس “حكومة الوحدة الوطنية” الليبية، مبادرة، في فبراير/شباط 2024، لإحلال السلام ووقف إطلاق النار في السودان. وعلى إثر ذلك، تمت دعوة طرفي النزاع -كل على حدة- لزيارة ليبيا. وبالفعل، قام قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، بزيارة طرابلس في 26 فبراير/شباط 2024، ثم تلاه قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، في 29 فبراير/شباط. التقى كلاهما بالدبيبة ولكن لم يتم الإعلان عن أي تفاصيل مرتبطة بمبادرة طرابلس أو الشروع في مفاوضات بوساطة ليبية(10).تحركات جديدة: ماذا تريد مصر من مؤتمر القوى السياسية السودانية؟انعقد في العاصمة المصرية القاهرة، يومي 6-7 يوليو/تموز 2024، مؤتمر جمع الفرقاء السودانيين لمناقشة وقف الحرب ومعالجة الأزمة الإنسانية والتحضير للمسار السياسي، في حدث يعتبر خطوة مهمة لكسر حاجز الانقسام وبناء الثقة بين فرقاء الأزمة السودانية للتباحث والتشاور بشكل مباشر لأول مرة منذ اندلاع الحرب، في 15 أبريل 2023، ووجهت وزارة الخارجية المصرية الدعوة إلى أكثر من 50 شخصًا من القيادات السياسية والمجتمعية وشخصيات قومية ورجال دين وإدارات أهلية، وتجاوزت الدعوة حزب المؤتمر الوطني. حاولت الدعوة أن تراعي التوازنات السياسية في المشهد السوداني؛ إذ شملت القوى المنضوية تحت تحالف قوى الميثاق الوطني المساندة للجيش، والقوى المدنية الديمقراطية “تقدم” المتهمة بموالاة قوات الدعم السريع. وفقًا لبطاقات الدعوة، فإن المؤتمر الذي تستضيفه العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة، سيستمع خلال جلسات متوازية إلى رؤى القوى السياسية فيما يتعلق بالحرب والتداعيات السلبية لها، وسبل معالجتها، وطبيعة الاحتياجات المطلوبة للمتضررين، وكذلك إلقاء الضوء على محددات الحوار السياسي السوداني-السوداني(11).تنطلق الهموم المصرية من مخاوف حقيقية على مصالحها الجيوسياسية وعلى أمنها القومي؛ فمصر منذ اندلاع الحرب في السودان استقبلت أكثر من 5 ملايين سوداني وانعكس ذلك بشكل سلبي على السلع والخدمات. فضلًا عن ذلك، مضت إثيوبيا بشكل متسارع في مشروع سد النهضة. بسبب تعقد المشهد السوداني سياسيًّا وعسكريًّا فإن أي تقييمات أو تقديرات بشأن التطورات، لابد أن تُبنى على مقاربة الفرصة والتحدي، وفي هذا الإطار هناك عدة فرص تعزز من حظوظ نجاح مؤتمر القوى السياسية السودانية بالقاهرة، هي(12):أولًا: مشاركة تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم” وهو تحالف عريض يضم العديد من القوى السياسية والحزبية في السودان، علاوة على المكانة الاعتبارية لشخص رئيسه رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، إقليميًّا ودوليًّا، وهو شخصية سياسية تحظى بثقة ومقبولية بشكل عام.ثانيًا: مشاركة لممثلي عدد من الحركات المسلحة الموقعين على اتفاقية سلام جوبا، في أكتوبر 2020 وميثاق أهل السودان. وهو بمنزلة أكبر تكتل يضم القوى السياسية المساندة للجيش السوداني.ثالثًا: التوافق على الفصل التام بين المسار العسكري الإنساني والسياسي باعتماد الحوار السوداني-السوداني برعاية الاتحاد الإفريقي مدخلًا للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة.وفي ذات السياق، هناك العديد من التحديات كالتالي(13):أولًا: غياب طرفي الحرب الرئيسيين (الجيش الوطني والدعم السريع) عن طاولة المؤتمر، لأسباب عديدة، لعل أهمها رفض بعض القوى السياسية السودانية لهذا الأمر، علاوة على عدم نجاح أي جهود أو مفاوضات ثنائية بينهما حتى الآن سواء عبر منبر جدة أو غيره. سيظل عدم إشراك طرفي القتال مع القوى السياسية على طاولة حوار واحدة تحديًا حقيقيًّا، أسهمت فيه مسألة تعدد منابر التفاوض والتدخلات الإقليمية والدولية.ثانيًا: عدم مشاركة بعض القوى السياسية والحركات المسلحة، كالحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال التي يرأسها عبد العزيز الحلو، والحركة الشعبية التيار الثوري الديمقراطي، بثينة دينار (أحد مكونات تقدم)، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور والحزب الشيوعي.ثالثًا: أطماع بعض القيادات العسكرية من الدعم السريع والجيش بأن يكون لهم أدوار سياسية في مرحلة ما بعد الحرب؛ وذلك سيكون له تداعيات على المسارات العسكرية والسياسية والإنسانية.أبرز المشاركين في مؤتمر القوى السياسية السودانية بالقاهرة رئيس تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم”، عبد الله حمدوك، ورئيس حزب الأمة، فضل الله برمة ناصر، ورئيس المكتب التنفيذي لحزب التجمع الاتحادي، بابكر فيصل، ورئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، ورئيس حزب البعث العربي الاشتراكي، الريح السنهوري، ورئيس حزب البعث، كمال بولاد، ورئيس حركة تحرير السودان (المجلس الانتقالي)، الهادي إدريس، ورئيس تجمع قوى تحرير السودان، الطاهر حجر، بجانب ممثلي المهنيين والنقابات والمجتمع المدني ولجان المقاومة. كما شملت الدعوة جعفر الميرغني، نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، ورئيس حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، ورئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، ورئيس الحركة الشعبية-شمال، مالك عقار، ورئيس حزب الأمة، مبارك الفاضل، ورئيس المجلس الأعلى للبجا والعموديات المستقلة، محمد الأمين ترك، وكذلك رئيس الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة، الأمين داؤود، ورئيس حزب التحرير، التجاني السيسي، إضافة إلى شخصيات وطنية بينها السفير نور الدين ساتي، والواثق كمير، وصديق أمبدة، وعالم عباس، والمحبوب عبد السلام، والشفيع خضر. وأعلنت الحركة الشعبية-شمال، برئاسة عبد العزيز الحلو، عدم المشاركة في مؤتمر القاهرة كما أعلنت بثينة دينار، نائبة رئيس التيار الثوري الديمقراطي، اعتذارها أيضًا عن المشاركة في المؤتمر، فضلًا عن عبد الواحد نور، رئيس حركة جيش تحرير السودان(14).لم تكن القوى السياسية السودانية المشاركة في مؤتمر القاهرة على قلب رجل واحد فكل له رؤاه وأفكاره حول كيفية حل الأزمة السودانية الحالية؛ حيث إن الخلافات وجدت ضالتها منذ الاجتماع التحضيري الذي سبق المؤتمر بيوم حيث طالب (عقار- جبريل- مناوي) بمخاطبة الجلسة الافتتاحية فيما رأى قيادات (تقدم) أن تكون هناك كلمة واحدة للقوى المدنية يتلوها دكتور الشفيع خضر، فغضب جبريل ومناوي من المقترح وهدَّدا بمقاطعة الجلسة الافتتاحية وعدم الجلوس مع (تقدم)، وبعد تدخلات من الوساطة المصرية تم إقناعهما بالحضور، لتتجدد الاشتراطات أخرى عندما ثار مناوي، واعتبر أن الجهة المنظمة لم تراع (الأوزان) في الجلوس ويبدو أنه نسي أن تمثيله في المؤتمر ليس باعتباره حاكمًا لإقليم دارفور وإنما رئيسًا لحركة تحرير السودان. ظل مناوي ثائرًا حتى وصل به الأمر إلى أن قال إنه لن يجلس مع الطاهر حجر والهادي إدريس لأنهم قتلوا شقيقه في معارك الفاشر. بعد الانتهاء من الجلسة الافتتاحية شرعت الوساطة المصرية في تقسيم الحضور إلى لجان لمناقشة ثلاث قضايا، هي المسألة السياسية، وإيقاف الاقتتال، والقضية الإنسانية، وانخرط المشاركون في اللجان بمن فيهم حلفاء الكتلة الديمقراطية، مبارك الفاضل المهدي، والتيجاني سيسي وآخرون(15).إبان انطلاق المباحثات بين القوى السياسية السودانية فوجئ الجميع باعتراض من حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان، بحيث رفضوا الجلوس مع تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) على طاولة واحدة؛ مما أسفر عن تدخل لجنة التسيير التي ضمت كلًّا من “السفير نور الدين ساتي، د. الشفيع خضر، د. الواثق كمير، د. مضوي إبراهيم، المحبوب عبدالسلام، نفيسة حجر، عالم عباس”؛ حيث أقنعت اللجنة مجموعة الكتلة الديمقراطية بضرورة مناقشة كل مجموعة القضايا الثلاث ومن ثم يتم التوقيع على البيان الختامي، وانخرط الحضور في المداولات ومع اختتام أعمال مؤتمر القوى السياسية السودانية في القاهرة وقَّعت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم” على البيان الختامي، إلا أن هناك شخصيات سودانية رفضت التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر، ومنها: مالك عقار وجبريل إبراهيم ومني أركو مناوي والتجاني السيسي ومحمد الأمين ترك وآخرون، لأنه لم يستصحب ملاحظاتها وتعديلاتها. وأكدت الشخصيات الممتنعة في بيان “التزامها بالسلام والتحول الديمقراطي ودعمها للجهود المصرية لإنجاز الحوار السوداني وتحقيق السلام والاستقرار(16).تداعيات مؤتمر القاهرة على الحرب في السودانينذر الوضع الراهن في السودان عسكريًّا وميدانيًّا بخطر وشيك على وحدة السودان، كما ينذر الوضع الإنساني بالاقتراب من وضع المجاعة حسب توقعات الأمم المتحدة، في ظل غياب آفاق التوصل إلى تسوية سياسية عبر منابر التفاوض الأخرى كمنبر جدة، وعدم التعاطي الجاد من قبل طرفي الحرب مع المبادرات الأخرى للاتحاد الإفريقي والإيغاد التي صدرت عن مجلس السلم والأمن الإفريقي ودعوة اللجنة الرئاسية للمجلس بقيادة الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، وقادة الدول الإفريقية، للجمع بين الفريق أول عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو “حميدتي” على طاولة واحدة. مما يجعل دول الجوار للسودان ومنطقة القرن الإفريقي في وضع معقد يصعب التنبؤ بمآلاته على كافة المستويات. مؤتمر القاهرة يأتي في سياق جهد تراكمي لبلورة موقف جديد بتوحيد آراء القوى السياسية السودانية مدخلًا لإيقاف الحرب واستكمال الإجراءات المرتبطة بتشكيل حكومة جديدة. أعتقد بأن الحكومة المصرية لديها رؤية لحل الأزمة السودانية؛ حيث تشمل التوصل لوقف شامل ومستدام لإطلاق النار، فضلًا عن وجوب الحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية في السودان، والتأكيد على أن الأزمة في السودان تخص السودانيين وتحييد البعد الإقليمي والدولي(17).يمثل مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية، خطوةً أولى وتمهيدية للحوار بين القوى السياسية، وهي خطوة ظلت غائبة في المبادرات السابقة حيث ركزت على طرفي الصراع العسكري، وتجاهلت القوى السياسية، رغم أن جذور الأزمة متشابكة، والأصل فيها انعدام التوافق السياسي في استكمال المرحلة الانتقالية، ويسهم أي حيز للحوار في إعادة طرح الأزمة وعودة أدوار القوى السياسة التي غابت مع الحرب باعتبارها فرضت واقعًا سياسيًّا جديدًا، فالحرب تهدد بانهيار شامل للدولة السودانية، فضلًا عن البعد الإنساني ما بين الجوع والنزوح والقتل، وضمن دلائل المؤتمر أن هناك تغيرًا نسبيًّا في موقف مصر إزاء القوى السياسية السودانية حيث تعاملت بمرونة، كما تواصل القاهرة خطوات سابقة في الحوار مع القوى السياسية، منها تيسير الحوار عبر ورش واجتماعات في القاهرة وخارجها، ومن بين الدلائل على تقدم دور الوساطة المصرية، أن المؤتمر جرى الإعداد والدعوة إليه بمشاركة أطراف إقليمية ودولية، بينها هيئات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، بجانب وفود من دول الجوار، ما يضع هذه الهيئات أمام مسؤوليتها ويدل في الوقت ذاته على إدراك القاهرة ضرورة التعاون مع الأطراف كافة لمعالجة أزمة السودان، التي أصبحت ساحةً للتفاعلات الدولية، ما يفرض التوصل إلى حد أدنى من التنسيق ومن الاتفاق على القضايا الرئيسية. وحاولت القاهرة إنجاح المؤتمر، حتى وإن تأجل موعده، لضمان مشاركة واسعة. ومع وجود تشكيل وزاري جديد، تريد الحكومة المصرية إبراز فاعليته في الأزمة السودانية. وأخيرًا، حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على تسجيل مواقفه بلقاء القوى السياسية السودانية، وأيضًا، ممثلين لدول الإمارات وألمانيا وقطر، وإبداء حسن نوايا القاهرة، وتأكيد رغبتها في وقف الحرب، وعودة الأمن والاستقرار في السودان لأن غياب ذلك يؤثر على الأمن القومي المصري(18).ضمن تقلبات المشهد في السودان، تأثير القوى الإقليمية؛ حيث سارع رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، للقاء البرهان لنقاش قضايا أمنية منها الحدود، ودور أديس أبابا، التي تستضيف الحوار السوداني-السوداني برعاية الاتحاد الإفريقي بشأن الحرب في السودان. وقال، في رسالة واضحة: إن في الأوقات الصعبة يتكشف من هم أصدقاء السودان الحقيقيون. بالرغم من أن آبي أحمد كان مُتهمًا بموالاة قوات الدعم السريع، وسعى في مؤتمر “إيغاد” إلى فرض حظر طيران وإدخال قوات إلى السودان. لكن هذا الطرح رُفِض بشدة من قبل الحكومة السودانية وبعض القوى السياسية، كما أسهم مؤتمر “دول الجوار”، الذي عُقد في القاهرة، في رفض التدخل العسكري المباشر في السودان، ما عُدَّ ساعتها انحيازًا إلى للحكومة السودانية، وتصديًا مصريًّا لبعض دول الجوار المساندة لقوات الدعم السريع(19).رغم التباين في تقييم مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية، يمكن القول: إن هناك نتائج إيجابية تحققت من المؤتمر، ونجاحًا جزئيًّا في ضوء ما أُعلِن من أهداف قبيل انعقاده، كما جمع القوى السياسية للنقاش والتوصل إلى توافق بشأن سبل وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، وإعادة تشكيل المشهد السياسي، وربما تنجح اللجنة التي شُكِّلت للمتابعة والتنسيق في مواقف القوى السياسية المختلفة، ويمكن تحليل دلالات المؤتمر؛ فمن حيث حجم المشاركة والاستجابة استطاع المؤتمر جذب أطراف وقوى سياسية مختلفة (ما يزيد عن 40 جهة) للحوار، بما في ذلك كتلتان رئيسيتان، “تقدم” التي يترأسها رئيس وزراء السودان السابق، عبد الله حمدوك، وتضم أغلب مكونات قوى الحرية والتغيير (اللجنة المركزية)، كما شارك رموز من كتلة الديمقراطية، ومنهم قادة حركات مسلحة (مالك عقار ومني أركو مناوي وجبريل إبراهيم)، ضمن جبهة ساندت قيادة الجيش، ومهدت للانقلاب على الحكومة المدنية (25 أكتوبر/تشرين الأول 2021) وما زالت تصطف مع البرهان ضد غريمه، محمد حمدان دقلو (حميدتى)، وبناء عليه، تحفظوا على البيان الختامي للمؤتمر، بدعوى أنه لم يحمل إدانة صريحة لانتهاكات قوات الدعم السريع، وشعورها بأن نتائج المؤتمر تُقوِّي صف “تقدم”؛ ما يدل على بقاء مشهد الصراع السياسي جزئيًّا، ما بين القوى السياسية السودانية، وانعدام مبدأ المباحثات من أجل وضع أرضية مشتركة حول القضايا الخلافية(20).عطفًا على مؤتمر القاهرة، ستسعى مصر إلى العمل على عدد من المسارات المتوازية، من شأنها وقف الحرب في السودان، وفي هذا الإطار فهي لم تهمل أو تتجاوز منبر جدة وذكر البيان الختامي للمؤتمر ذلك بما يعني أن الشريك السعودي حاضر في الجهود المصرية مع وجود ضوء أخضر أميركي لا ندري حدوده على وجه الدقة، وهو ما يفسر لنا زيارة نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، إلى بورتسودان غداة انتهاء مؤتمر القاهرة في شأن تنشيط مسار جدة من حيث كونه منصة بديلة لمنصة “إيغاد” التي فشلت في جمع طرفي الصراع العسكري في السودان، دون إهمال حجم التقارب بين مصر والإمارات مما يسهم بشكل أو آخر في الدور المصري في الأزمة السودانية. على صعيد جهود وقف الحرب السودانية، يبدو لنا أن مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية وضع الثوابت المتوافق عليها المتمثلة في الفصل بين المسار العسكري والسياسي مما سيسهل أعمال الاتحاد الإفريقي التحضيرية للحوار السوداني-السوداني المنعقد في أديس أبابا(21).خاتمةيتضح من خلال ما سبق أن مؤتمر القاهرة للقوى المدنية السودانية يأتي في توقيت حساس وصعب؛ حيث يتداخل معه الكثير من العوامل والتأثيرات، التي قد تخدم فرص نجاح هذا المؤتمر واعتماده أرضية مشتركة بين القوى السياسية السودانية لكن في الوقت نفسه هناك تحديات للمؤتمر تتمثل في التقاطعات والتناقضات بين القوى المشاركة فيه، فضلًا عن ذلك الأدوار الإقليمية والدولية في ظل تعدد المبادرات ستسهم بشكل أو آخر في اصطفاف القوى السياسية السودانية لصالح أطراف إقليمية ودولية، فضلًا عن ذلك التوافق على الفصل التام بين المسار العسكري الإنساني والسياسي. المباحثات العسكرية ستلقي بظلالها على الحوار السوداني-السوداني بحيث إن هناك عناصر من طرفي النزاع لديهم أطماع في المحافظة على نفوذهم السياسي في مرحلة ما بعد الحرب لاسيما أن الدعم السريع سيحاول الإبقاء على وضعيته الدستورية وذلك سينعكس سلبًا على الأوضاع السياسية ويزيد من حدة الاستقطاب الداخلي بين القوى السياسية؛ لذا أعتقد أن مسألة دمج الدعم السريع والحركات الأخرى في الجيش السوداني إبان الفترة الانتقالية مسألة في غاية الأهمية.
تحاول هذه الورقة استعراض وتحليل أسباب ودوافع القاهرة لتنظيم مؤتمر للطيف السياسي السوداني، وتداعيات ذلك على القوى السياسية السودانية التي وجدت صعوبات جمة في إيجاد آلية سياسية لتنسيق مواقفها وهو ما يعكس قدر التباين في وجهات النظر بينهم.
اختُتم بالعاصمة المصرية، القاهرة، مؤتمر القوى السياسية حول مناقشة القضايا السياسي الخلافية وكذلك مسألة إنهاء الحرب وإيصال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين وبحث فرص استئناف المفاوضات الجيش وقوات الدعم السريع وإطلاق عملية سياسية شاملة تفضي إلى مرحلة انتقالية في السودان. لم تتوصل القوى السياسية المشاركة في مؤتمر القاهرة إلى تفاهمات كما كان متوقعًا. برزت الخلافات برفض بعض القوى السياسية، التوقيع على البيان الختامي، تحديدًا حركات الكفاح المسلح الموقِّعة على اتفاق جوبا، الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة، والعدل المساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وزير المالية، وتحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، ومحمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى للبجا، والتجاني سيسي وآخرين، وذلك لأن البيان الختامي للمؤتمر لم يستصحب ملاحظاتها وتعديلاتها وبالتالي فمواقف القوى السياسية السودانية تعكس قدر التباين في وجهات النظر بينها.
من خلال هذه الورقة نحاول استعراض وتحليل أسباب ودوافع القاهرة لتنظيم المؤتمر وتداعياته على القوى السياسية السودانية.
أبرز المبادرات الإقليمية والدولية لوقف الاقتتال في السودان
ظل اختلاف القوى السياسية السودانية حول قضايا البلاد المتفاوتة منذ فجر الاستقلال عام 1956، لكن ما حدث من تباعد وانشطار وتنافر بين هذه القوى خلال فترة الانتقال التي أعقبت سقوط نظام الرئيس السابق، عمر البشير، في الـ11 من أبريل/نيسان 2019، لم يُشهد له مثيل؛ إذ تسبب بشكل مباشر في اندلاع الحرب المحتدمة حاليًّا بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، منذ 15 أبريل/نيسان 2023. طرحت أطراف دولية وإقليمية 9 مبادرات لوقف الحرب واستئناف العملية السياسية واستكمال الانتقال لكن جميعها لم تصل إلى ذلك، ربما يعود ذلك إلى تعدد المنابر وغياب الإرادة لدى بعض الأطراف في الوصول إلى تفاهمات تضعف تأثيرهم على المشهد(1).
فما أبرز المبادرات الإقليمية والدولية لحلحلة الأزمة ووقف الحرب في السودان؟
أولًا: منبر مفاوضات جدة “برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة”
بدأ أعماله في مايو/أيار 2023 حين التقى وسطاء، سعوديون وأميركيون، بوفدي “قوات الدعم السريع” والقوات المسلحة السودانية، بهدف “تقليل التوتر، وإعداد الأرضية للحوار، والاتفاق على هدنة تسعى إلى وقف دائم لإطلاق النار، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية”. وقَّع الطرفان المتحاربان إعلان جدة الإنساني لحماية المدنيين، في 12 مايو/أيار 2023، حيث وُضعت مجموعة من الالتزامات تهدف لتقليل آثار الحرب على المدنيين، ولكن لم يتم تنفيذ بنود هذا الإعلان، بل استغلته “قوات الدعم السريع” لزيادة تمددها على الأرض والاستيلاء على مزيد من الأعيان المدنية(2).
من أبرز نقاط إعلان جدة وضع الأولوية لمصلحة الشعب السوداني وسلامته، وحماية المدنيين في جميع الأوقات، بما في ذلك السماح للمدنيين بمغادرة مناطق القتال بمفردهم، والالتزام بالقانون الإنساني الدولي مع التمييز بين المدنيين والمقاتلين والأهداف المدنية والعسكرية والامتناع عن أي هجوم قد يتسبب في إلحاق ضرر بالمدنيين، واتخاذ الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الأذى ضد المدنيين. وقد وصل منبر جدة إلى أكثر من 11 اتفاق هدنة بين الأطراف، لكن لم يتم احترام أي منها قبل أن يتوقف عن أعماله، في ديسمبر/كانون الأول 2023(3).
مؤخرًا، وصل نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، 7 يوليو/تموز 2024، إلى مدينة بورتسودان، في أول زيارة لمسؤول سعودي إلى السودان، منذ اندلاع الحرب بين الجيش و”قوات الدعم السريع”، في 15 أبريل/نيسان 2023. والتقى الخريجي، رئيس مجلس السيادة، الفريق الأول الركن عبد الفتاح البرهان، حيث أكد حرص الرياض على عودة الأمن والاستقرار للسودان، وما يتطلبه ذلك من تهدئة وتغليب للحكمة وضبط النفس، والحرص على استئناف المفاوضات وإبداء المرونة والتجاوب مع المبادرات الإيجابية والإنسانية. كما أكد ترحيب المملكة ودعمها لجميع الجهود الأممية والدولية الهادفة إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، وللجهود الإنسانية الرامية إلى تخفيف معاناة الشعب السوداني(4).
ثانيًا: مبادرة الاتحاد الإفريقي
في مايو/أيار 2023، أعلن الاتحاد الإفريقي خارطة طريق لحل النزاع في السودان. وكان الاتحاد الإفريقي قد أنشأ آلية موسعة تضم ممثلين من الآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الإفريقي و”الإيغاد” (الهيئة الحكومية للتنمية التي تضم دول شرق إفريقيا) وبعثة الأمم المتحدة “يونيتامس” بالإضافة إلى جامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والدول الإفريقية الأعضاء في مجلس الأمن، ودول جوار السودان (جمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، ومصر، وإريتريا، وإثيوبيا، وليبيا، وجنوب السودان)، والدول المعينة من قبل السلطة التنفيذية لشرق إفريقيا للتفاوض مع الأطراف المتحاربة في السودان وتشمل (جنوب السودان، وكينيا، وجيبوتي)، وجزر القمر رئيسًا للاتحاد الإفريقي، والآلية الرباعية التي كانت معنية بتيسير التفاوض في السودان، وتشمل (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة)، والترويكا المعنية بالشأن السوداني (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، النرويج)، بالإضافة إلى ألمانيا وقطر. لم تعقد الآلية الموسعة أي اجتماع مباشر ولم يوضع أي إطار منهجي لعملها، ولم يتم أخذها على محمل الجد حتى تجاوزتها الأحداث واستعاضت أطرافها بالعمل على مبادراتها المستقلة(5).
ثالثًا: مبادرة الإيغاد
في أبريل/نيسان 2023، بدأت الإيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية) جهودها للوساطة في الأزمة السودانية، وقررت إنشاء آلية رئاسية للتوسط لإحلال السلام في السودان، برئاسة دولة جنوب السودان، وضمَّت الآلية أيضًا جيبوتي وكينيا، ولاحقًا تم توسيع الآلية لتشمل إثيوبيا لكن تم نقل الرئاسة إلى كينيا بشكل غير متفق عليه في قمة رؤساء “الإيغاد” التي انعقدت في جيبوتي، في يونيو/حزيران 2023، وهو ما أدى إلى خلافات واعتراضات نتج عنها تعطيل عمل آلية الإيغاد(6).
كانت المبادرة تهدف في الأصل إلى تيسير الحوار بين طرفي الحرب وتمكينهما من عقد اجتماع مباشر بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو. جدَّدت سكرتارية الإيغاد سعيها لتنظيم لقاء مباشر بين الجنرالين وقدمت الدعوة، في ديسمبر/كانون الأول 2023، لعقد لقاء مباشر بينهما في جيبوتي، قبل أن تعود وتعتذر عنه وذلك باعتذار قائد “الدعم السريع” لعدم قدرته على الوصول إلى جيبوتي لأسباب فنية، وقد اتضح لاحقًا أنه في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، مفضِّلًا لقاء تحالف “تقدم” وتوقيع اتفاق مع رئيس الوزراء السابق، عبد الله حموك. على إثر ذلك، علَّقت الحكومة السودانية عضويتها في الإيغاد وانتهت تلك الجهود دون تحقيق أي نتائج إيجابية بشأن الاقتتال في السودان(7).
رابعًا: مبادرة دول جوار السودان
في 13 يوليو/تموز 2023، بادرت مصر إلى بذل جهد مشترك بين الدول المجاورة للسودان لإنهاء الحرب، واستضافت قمة رئاسية للدول المجاورة بهدف تحقيق “وقف إطلاق النار، وفتح ممرات آمنة، وتقديم المساعدات، وإجراء حوار شامل، وإنشاء آلية للتواصل مع طرفي النزاع”. تبع ذلك اجتماع على المستوى الوزاري في تشاد، بتاريخ 7 أغسطس 2023، لإنشاء آلية تنفيذية. لكن لم تتواصل أعمال المبادرة وتوقفت دون إصدار أي توضيحات من السلطات المصرية(8).
خامسًا: مبادرة الجامعة العربية
أعلن الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، في مارس 2024، استعداد الجامعة لاستضافة كافة الأطراف السودانية لإيجاد حل ضمن ثوابت الجامعة التي تشمل الحفاظ على وحدة أراضي السودان وسيادته ومؤسساته ومقدراته، وتحقيق وقف فوري لإطلاق النار لاحتواء الكارثة. وعقدت الجامعة العربية اجتماعًا لاحقًا ضم كل الأطراف الدولية المعنية في يونيو/حزيران 2024، لتنسيق الجهود بشأن إيقاف الحرب في السودان. وكان بين المشاركين ممثلون من جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية في القرن الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، والبحرين (الرئيس الحالي للقمة العربية)، وموريتانيا (التي تترأس الاتحاد الإفريقي)، وجيبوتي التي تترأس “الإيغاد”، لكن المبادرة لم تجد الاستجابة من طرفي النزاع في السودان(9).
سادسًا: مبادرة الحكومة الليبية
أعلن عبد الحميد الدبيبة، رئيس “حكومة الوحدة الوطنية” الليبية، مبادرة، في فبراير/شباط 2024، لإحلال السلام ووقف إطلاق النار في السودان. وعلى إثر ذلك، تمت دعوة طرفي النزاع -كل على حدة- لزيارة ليبيا. وبالفعل، قام قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، بزيارة طرابلس في 26 فبراير/شباط 2024، ثم تلاه قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، في 29 فبراير/شباط. التقى كلاهما بالدبيبة ولكن لم يتم الإعلان عن أي تفاصيل مرتبطة بمبادرة طرابلس أو الشروع في مفاوضات بوساطة ليبية(10).
تحركات جديدة: ماذا تريد مصر من مؤتمر القوى السياسية السودانية؟
انعقد في العاصمة المصرية القاهرة، يومي 6-7 يوليو/تموز 2024، مؤتمر جمع الفرقاء السودانيين لمناقشة وقف الحرب ومعالجة الأزمة الإنسانية والتحضير للمسار السياسي، في حدث يعتبر خطوة مهمة لكسر حاجز الانقسام وبناء الثقة بين فرقاء الأزمة السودانية للتباحث والتشاور بشكل مباشر لأول مرة منذ اندلاع الحرب، في 15 أبريل 2023، ووجهت وزارة الخارجية المصرية الدعوة إلى أكثر من 50 شخصًا من القيادات السياسية والمجتمعية وشخصيات قومية ورجال دين وإدارات أهلية، وتجاوزت الدعوة حزب المؤتمر الوطني. حاولت الدعوة أن تراعي التوازنات السياسية في المشهد السوداني؛ إذ شملت القوى المنضوية تحت تحالف قوى الميثاق الوطني المساندة للجيش، والقوى المدنية الديمقراطية “تقدم” المتهمة بموالاة قوات الدعم السريع. وفقًا لبطاقات الدعوة، فإن المؤتمر الذي تستضيفه العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة، سيستمع خلال جلسات متوازية إلى رؤى القوى السياسية فيما يتعلق بالحرب والتداعيات السلبية لها، وسبل معالجتها، وطبيعة الاحتياجات المطلوبة للمتضررين، وكذلك إلقاء الضوء على محددات الحوار السياسي السوداني-السوداني(11).
تنطلق الهموم المصرية من مخاوف حقيقية على مصالحها الجيوسياسية وعلى أمنها القومي؛ فمصر منذ اندلاع الحرب في السودان استقبلت أكثر من 5 ملايين سوداني وانعكس ذلك بشكل سلبي على السلع والخدمات. فضلًا عن ذلك، مضت إثيوبيا بشكل متسارع في مشروع سد النهضة. بسبب تعقد المشهد السوداني سياسيًّا وعسكريًّا فإن أي تقييمات أو تقديرات بشأن التطورات، لابد أن تُبنى على مقاربة الفرصة والتحدي، وفي هذا الإطار هناك عدة فرص تعزز من حظوظ نجاح مؤتمر القوى السياسية السودانية بالقاهرة، هي(12):
أولًا: مشاركة تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم” وهو تحالف عريض يضم العديد من القوى السياسية والحزبية في السودان، علاوة على المكانة الاعتبارية لشخص رئيسه رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، إقليميًّا ودوليًّا، وهو شخصية سياسية تحظى بثقة ومقبولية بشكل عام.
ثانيًا: مشاركة لممثلي عدد من الحركات المسلحة الموقعين على اتفاقية سلام جوبا، في أكتوبر 2020 وميثاق أهل السودان. وهو بمنزلة أكبر تكتل يضم القوى السياسية المساندة للجيش السوداني.
ثالثًا: التوافق على الفصل التام بين المسار العسكري الإنساني والسياسي باعتماد الحوار السوداني-السوداني برعاية الاتحاد الإفريقي مدخلًا للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة.
وفي ذات السياق، هناك العديد من التحديات كالتالي(13):
أولًا: غياب طرفي الحرب الرئيسيين (الجيش الوطني والدعم السريع) عن طاولة المؤتمر، لأسباب عديدة، لعل أهمها رفض بعض القوى السياسية السودانية لهذا الأمر، علاوة على عدم نجاح أي جهود أو مفاوضات ثنائية بينهما حتى الآن سواء عبر منبر جدة أو غيره. سيظل عدم إشراك طرفي القتال مع القوى السياسية على طاولة حوار واحدة تحديًا حقيقيًّا، أسهمت فيه مسألة تعدد منابر التفاوض والتدخلات الإقليمية والدولية.
ثانيًا: عدم مشاركة بعض القوى السياسية والحركات المسلحة، كالحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال التي يرأسها عبد العزيز الحلو، والحركة الشعبية التيار الثوري الديمقراطي، بثينة دينار (أحد مكونات تقدم)، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور والحزب الشيوعي.
ثالثًا: أطماع بعض القيادات العسكرية من الدعم السريع والجيش بأن يكون لهم أدوار سياسية في مرحلة ما بعد الحرب؛ وذلك سيكون له تداعيات على المسارات العسكرية والسياسية والإنسانية.
أبرز المشاركين في مؤتمر القوى السياسية السودانية بالقاهرة رئيس تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم”، عبد الله حمدوك، ورئيس حزب الأمة، فضل الله برمة ناصر، ورئيس المكتب التنفيذي لحزب التجمع الاتحادي، بابكر فيصل، ورئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، ورئيس حزب البعث العربي الاشتراكي، الريح السنهوري، ورئيس حزب البعث، كمال بولاد، ورئيس حركة تحرير السودان (المجلس الانتقالي)، الهادي إدريس، ورئيس تجمع قوى تحرير السودان، الطاهر حجر، بجانب ممثلي المهنيين والنقابات والمجتمع المدني ولجان المقاومة. كما شملت الدعوة جعفر الميرغني، نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، ورئيس حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، ورئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، ورئيس الحركة الشعبية-شمال، مالك عقار، ورئيس حزب الأمة، مبارك الفاضل، ورئيس المجلس الأعلى للبجا والعموديات المستقلة، محمد الأمين ترك، وكذلك رئيس الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة، الأمين داؤود، ورئيس حزب التحرير، التجاني السيسي، إضافة إلى شخصيات وطنية بينها السفير نور الدين ساتي، والواثق كمير، وصديق أمبدة، وعالم عباس، والمحبوب عبد السلام، والشفيع خضر. وأعلنت الحركة الشعبية-شمال، برئاسة عبد العزيز الحلو، عدم المشاركة في مؤتمر القاهرة كما أعلنت بثينة دينار، نائبة رئيس التيار الثوري الديمقراطي، اعتذارها أيضًا عن المشاركة في المؤتمر، فضلًا عن عبد الواحد نور، رئيس حركة جيش تحرير السودان(14).
لم تكن القوى السياسية السودانية المشاركة في مؤتمر القاهرة على قلب رجل واحد فكل له رؤاه وأفكاره حول كيفية حل الأزمة السودانية الحالية؛ حيث إن الخلافات وجدت ضالتها منذ الاجتماع التحضيري الذي سبق المؤتمر بيوم حيث طالب (عقار- جبريل- مناوي) بمخاطبة الجلسة الافتتاحية فيما رأى قيادات (تقدم) أن تكون هناك كلمة واحدة للقوى المدنية يتلوها دكتور الشفيع خضر، فغضب جبريل ومناوي من المقترح وهدَّدا بمقاطعة الجلسة الافتتاحية وعدم الجلوس مع (تقدم)، وبعد تدخلات من الوساطة المصرية تم إقناعهما بالحضور، لتتجدد الاشتراطات أخرى عندما ثار مناوي، واعتبر أن الجهة المنظمة لم تراع (الأوزان) في الجلوس ويبدو أنه نسي أن تمثيله في المؤتمر ليس باعتباره حاكمًا لإقليم دارفور وإنما رئيسًا لحركة تحرير السودان. ظل مناوي ثائرًا حتى وصل به الأمر إلى أن قال إنه لن يجلس مع الطاهر حجر والهادي إدريس لأنهم قتلوا شقيقه في معارك الفاشر. بعد الانتهاء من الجلسة الافتتاحية شرعت الوساطة المصرية في تقسيم الحضور إلى لجان لمناقشة ثلاث قضايا، هي المسألة السياسية، وإيقاف الاقتتال، والقضية الإنسانية، وانخرط المشاركون في اللجان بمن فيهم حلفاء الكتلة الديمقراطية، مبارك الفاضل المهدي، والتيجاني سيسي وآخرون(15).
إبان انطلاق المباحثات بين القوى السياسية السودانية فوجئ الجميع باعتراض من حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان، بحيث رفضوا الجلوس مع تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) على طاولة واحدة؛ مما أسفر عن تدخل لجنة التسيير التي ضمت كلًّا من “السفير نور الدين ساتي، د. الشفيع خضر، د. الواثق كمير، د. مضوي إبراهيم، المحبوب عبدالسلام، نفيسة حجر، عالم عباس”؛ حيث أقنعت اللجنة مجموعة الكتلة الديمقراطية بضرورة مناقشة كل مجموعة القضايا الثلاث ومن ثم يتم التوقيع على البيان الختامي، وانخرط الحضور في المداولات ومع اختتام أعمال مؤتمر القوى السياسية السودانية في القاهرة وقَّعت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم” على البيان الختامي، إلا أن هناك شخصيات سودانية رفضت التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر، ومنها: مالك عقار وجبريل إبراهيم ومني أركو مناوي والتجاني السيسي ومحمد الأمين ترك وآخرون، لأنه لم يستصحب ملاحظاتها وتعديلاتها. وأكدت الشخصيات الممتنعة في بيان “التزامها بالسلام والتحول الديمقراطي ودعمها للجهود المصرية لإنجاز الحوار السوداني وتحقيق السلام والاستقرار(16).
تداعيات مؤتمر القاهرة على الحرب في السودان
ينذر الوضع الراهن في السودان عسكريًّا وميدانيًّا بخطر وشيك على وحدة السودان، كما ينذر الوضع الإنساني بالاقتراب من وضع المجاعة حسب توقعات الأمم المتحدة، في ظل غياب آفاق التوصل إلى تسوية سياسية عبر منابر التفاوض الأخرى كمنبر جدة، وعدم التعاطي الجاد من قبل طرفي الحرب مع المبادرات الأخرى للاتحاد الإفريقي والإيغاد التي صدرت عن مجلس السلم والأمن الإفريقي ودعوة اللجنة الرئاسية للمجلس بقيادة الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، وقادة الدول الإفريقية، للجمع بين الفريق أول عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو “حميدتي” على طاولة واحدة. مما يجعل دول الجوار للسودان ومنطقة القرن الإفريقي في وضع معقد يصعب التنبؤ بمآلاته على كافة المستويات. مؤتمر القاهرة يأتي في سياق جهد تراكمي لبلورة موقف جديد بتوحيد آراء القوى السياسية السودانية مدخلًا لإيقاف الحرب واستكمال الإجراءات المرتبطة بتشكيل حكومة جديدة. أعتقد بأن الحكومة المصرية لديها رؤية لحل الأزمة السودانية؛ حيث تشمل التوصل لوقف شامل ومستدام لإطلاق النار، فضلًا عن وجوب الحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية في السودان، والتأكيد على أن الأزمة في السودان تخص السودانيين وتحييد البعد الإقليمي والدولي(17).
يمثل مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية، خطوةً أولى وتمهيدية للحوار بين القوى السياسية، وهي خطوة ظلت غائبة في المبادرات السابقة حيث ركزت على طرفي الصراع العسكري، وتجاهلت القوى السياسية، رغم أن جذور الأزمة متشابكة، والأصل فيها انعدام التوافق السياسي في استكمال المرحلة الانتقالية، ويسهم أي حيز للحوار في إعادة طرح الأزمة وعودة أدوار القوى السياسة التي غابت مع الحرب باعتبارها فرضت واقعًا سياسيًّا جديدًا، فالحرب تهدد بانهيار شامل للدولة السودانية، فضلًا عن البعد الإنساني ما بين الجوع والنزوح والقتل، وضمن دلائل المؤتمر أن هناك تغيرًا نسبيًّا في موقف مصر إزاء القوى السياسية السودانية حيث تعاملت بمرونة، كما تواصل القاهرة خطوات سابقة في الحوار مع القوى السياسية، منها تيسير الحوار عبر ورش واجتماعات في القاهرة وخارجها، ومن بين الدلائل على تقدم دور الوساطة المصرية، أن المؤتمر جرى الإعداد والدعوة إليه بمشاركة أطراف إقليمية ودولية، بينها هيئات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، بجانب وفود من دول الجوار، ما يضع هذه الهيئات أمام مسؤوليتها ويدل في الوقت ذاته على إدراك القاهرة ضرورة التعاون مع الأطراف كافة لمعالجة أزمة السودان، التي أصبحت ساحةً للتفاعلات الدولية، ما يفرض التوصل إلى حد أدنى من التنسيق ومن الاتفاق على القضايا الرئيسية. وحاولت القاهرة إنجاح المؤتمر، حتى وإن تأجل موعده، لضمان مشاركة واسعة. ومع وجود تشكيل وزاري جديد، تريد الحكومة المصرية إبراز فاعليته في الأزمة السودانية. وأخيرًا، حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على تسجيل مواقفه بلقاء القوى السياسية السودانية، وأيضًا، ممثلين لدول الإمارات وألمانيا وقطر، وإبداء حسن نوايا القاهرة، وتأكيد رغبتها في وقف الحرب، وعودة الأمن والاستقرار في السودان لأن غياب ذلك يؤثر على الأمن القومي المصري(18).
ضمن تقلبات المشهد في السودان، تأثير القوى الإقليمية؛ حيث سارع رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، للقاء البرهان لنقاش قضايا أمنية منها الحدود، ودور أديس أبابا، التي تستضيف الحوار السوداني-السوداني برعاية الاتحاد الإفريقي بشأن الحرب في السودان. وقال، في رسالة واضحة: إن في الأوقات الصعبة يتكشف من هم أصدقاء السودان الحقيقيون. بالرغم من أن آبي أحمد كان مُتهمًا بموالاة قوات الدعم السريع، وسعى في مؤتمر “إيغاد” إلى فرض حظر طيران وإدخال قوات إلى السودان. لكن هذا الطرح رُفِض بشدة من قبل الحكومة السودانية وبعض القوى السياسية، كما أسهم مؤتمر “دول الجوار”، الذي عُقد في القاهرة، في رفض التدخل العسكري المباشر في السودان، ما عُدَّ ساعتها انحيازًا إلى للحكومة السودانية، وتصديًا مصريًّا لبعض دول الجوار المساندة لقوات الدعم السريع(19).
رغم التباين في تقييم مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية، يمكن القول: إن هناك نتائج إيجابية تحققت من المؤتمر، ونجاحًا جزئيًّا في ضوء ما أُعلِن من أهداف قبيل انعقاده، كما جمع القوى السياسية للنقاش والتوصل إلى توافق بشأن سبل وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، وإعادة تشكيل المشهد السياسي، وربما تنجح اللجنة التي شُكِّلت للمتابعة والتنسيق في مواقف القوى السياسية المختلفة، ويمكن تحليل دلالات المؤتمر؛ فمن حيث حجم المشاركة والاستجابة استطاع المؤتمر جذب أطراف وقوى سياسية مختلفة (ما يزيد عن 40 جهة) للحوار، بما في ذلك كتلتان رئيسيتان، “تقدم” التي يترأسها رئيس وزراء السودان السابق، عبد الله حمدوك، وتضم أغلب مكونات قوى الحرية والتغيير (اللجنة المركزية)، كما شارك رموز من كتلة الديمقراطية، ومنهم قادة حركات مسلحة (مالك عقار ومني أركو مناوي وجبريل إبراهيم)، ضمن جبهة ساندت قيادة الجيش، ومهدت للانقلاب على الحكومة المدنية (25 أكتوبر/تشرين الأول 2021) وما زالت تصطف مع البرهان ضد غريمه، محمد حمدان دقلو (حميدتى)، وبناء عليه، تحفظوا على البيان الختامي للمؤتمر، بدعوى أنه لم يحمل إدانة صريحة لانتهاكات قوات الدعم السريع، وشعورها بأن نتائج المؤتمر تُقوِّي صف “تقدم”؛ ما يدل على بقاء مشهد الصراع السياسي جزئيًّا، ما بين القوى السياسية السودانية، وانعدام مبدأ المباحثات من أجل وضع أرضية مشتركة حول القضايا الخلافية(20).
عطفًا على مؤتمر القاهرة، ستسعى مصر إلى العمل على عدد من المسارات المتوازية، من شأنها وقف الحرب في السودان، وفي هذا الإطار فهي لم تهمل أو تتجاوز منبر جدة وذكر البيان الختامي للمؤتمر ذلك بما يعني أن الشريك السعودي حاضر في الجهود المصرية مع وجود ضوء أخضر أميركي لا ندري حدوده على وجه الدقة، وهو ما يفسر لنا زيارة نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، إلى بورتسودان غداة انتهاء مؤتمر القاهرة في شأن تنشيط مسار جدة من حيث كونه منصة بديلة لمنصة “إيغاد” التي فشلت في جمع طرفي الصراع العسكري في السودان، دون إهمال حجم التقارب بين مصر والإمارات مما يسهم بشكل أو آخر في الدور المصري في الأزمة السودانية. على صعيد جهود وقف الحرب السودانية، يبدو لنا أن مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية وضع الثوابت المتوافق عليها المتمثلة في الفصل بين المسار العسكري والسياسي مما سيسهل أعمال الاتحاد الإفريقي التحضيرية للحوار السوداني-السوداني المنعقد في أديس أبابا(21).
خاتمة
يتضح من خلال ما سبق أن مؤتمر القاهرة للقوى المدنية السودانية يأتي في توقيت حساس وصعب؛ حيث يتداخل معه الكثير من العوامل والتأثيرات، التي قد تخدم فرص نجاح هذا المؤتمر واعتماده أرضية مشتركة بين القوى السياسية السودانية لكن في الوقت نفسه هناك تحديات للمؤتمر تتمثل في التقاطعات والتناقضات بين القوى المشاركة فيه، فضلًا عن ذلك الأدوار الإقليمية والدولية في ظل تعدد المبادرات ستسهم بشكل أو آخر في اصطفاف القوى السياسية السودانية لصالح أطراف إقليمية ودولية، فضلًا عن ذلك التوافق على الفصل التام بين المسار العسكري الإنساني والسياسي. المباحثات العسكرية ستلقي بظلالها على الحوار السوداني-السوداني بحيث إن هناك عناصر من طرفي النزاع لديهم أطماع في المحافظة على نفوذهم السياسي في مرحلة ما بعد الحرب لاسيما أن الدعم السريع سيحاول الإبقاء على وضعيته الدستورية وذلك سينعكس سلبًا على الأوضاع السياسية ويزيد من حدة الاستقطاب الداخلي بين القوى السياسية؛ لذا أعتقد أن مسألة دمج الدعم السريع والحركات الأخرى في الجيش السوداني إبان الفترة الانتقالية مسألة في غاية الأهمية.
الحدث بريس/مركز الجزيرة للدراسات.