يعيش الاقتصاد المغربي مفارقة حادة بين أرقام مالية إيجابية على الورق، وواقع اقتصادي واجتماعي يزداد هشاشة، ما يكشف عن اختلالات عميقة في البنية الاقتصادية والسياسات العمومية. فبينما سجلت مداخيل الدولة قفزة نوعية وصلت إلى 144.1 مليار درهم حتى نهاية أبريل 2025، بزيادة بلغت 19% مقارنة مع نفس الفترة من العام السابق، فإن العجز المالي شهد بدوره قفزة مثيرة للقلق، حيث بلغ 11.7 مليار درهم، بعدما كان في حدود 1.2 مليار درهم فقط في أبريل 2024.
هذا التناقض يعكس فشلًا في تحويل النمو في المداخيل إلى نتائج تنموية حقيقية، ويطرح تساؤلات عميقة حول إدارة الموارد العامة وأولويات الإنفاق. فزيادة الإيرادات ارتكزت بشكل رئيسي على الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يشير إلى تحميل الأعباء الجبائية بشكل متزايد على المواطنين والمقاولات الصغيرة والمتوسطة، دون أن يقابله تحسين فعلي في شروط العيش أو جودة الخدمات العمومية.
في المقابل، شهدت النفقات العمومية ارتفاعًا ملحوظًا بنسبة 24.7% لتصل إلى 195.5 مليار درهم، إلا أن هذه الزيادة لم تذهب في اتجاه الاستثمار أو دعم الفئات الهشة، بل ركزت أساسًا على نفقات التسيير التي ارتفعت بنسبة 30.3%، في مقابل زيادة متواضعة نسبيًا في الاستثمار العمومي بنسبة 17.6%. هذا التوجه يعكس هيمنة منطق التدبير الروتيني على حساب التوجه الاستراتيجي القادر على إحداث تحولات بنيوية في الاقتصاد الوطني.
وما يزيد الوضع تعقيدًا هو تآكل القدرة الشرائية للمواطنين بفعل التضخم وارتفاع أسعار المواد الأساسية، دون أن تقابلها أي إجراءات ملموسة لدعم صندوق المقاصة أو لخفض كلفة المعيشة، ما عمّق من معاناة الفئات الأكثر هشاشة وأدى إلى اتساع الهوة الاجتماعية.
في ظل هذه الأرقام، يبدو أن الرؤية الاقتصادية المعلنة من طرف الحكومة الحالية لم تترجم إلى نتائج ملموسة، إذ تتواصل الفوارق الاجتماعية وتتراجع مؤشرات الثقة الشعبية، وسط تنامي الانتقادات سواء من داخل البرلمان أو من المجتمع المدني. وبعد ثلاث سنوات من تولي حكومة توصف بـ”حكومة التكنوقراط ورجال الأعمال”، تظهر المؤشرات أن النموذج التنموي ما زال يراوح مكانه، وأن الإصلاحات الهيكلية لم تحقق بعد التوازن المطلوب بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي.
ويطرح هذا الواقع الحاد أسئلة محورية حول طبيعة الأولويات الاقتصادية للبلاد، ومدى التزام الحكومة بتوزيع عادل للثروات. فالنمو في حد ذاته لا يشكل قيمة مضافة إذا لم يُترجم إلى تحسين في مستويات العيش، واستثمار فعلي في القطاعات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والتعليم والسكن.
كما أن تقييم الاستدامة المالية لهذا النهج يظل ضروريًا، في ظل المخاوف من تفاقم الدين العمومي واستمرار العجز المالي. ويتطلب الأمر تعزيز الشفافية في إدارة المال العام وربط الإنفاق العمومي بالمردودية الاجتماعية، وليس فقط بالحسابات المالية الجافة.
إن مستقبل الاستقرار الاجتماعي في المغرب بات مرتبطًا أكثر من أي وقت مضى بقدرة الدولة على بناء اقتصاد أكثر عدالة وفعالية، يضع المواطن في قلب أولوياته، ويكفل له حصة من النمو تترجم إلى واقع معاش لا مجرد أرقام تزين التقارير الرسمية.