إذا نجح الأمريكان فى تأسيس وتمرير مشروع التحالف العسكرى بين العرب و(إسرائيل)، فإنه سيكون من أخطر الاعتداءات التى تعرضنا لها فى الـ75 عاما الماضية. ومن أشد الهزائم التى لحقت بنا، من حيث هو ليس فقط تخليا عن الثوابت الوطنية والقومية والعقائدية وتبني لرواية العدو الصهيونى. بل هو فوق ذلك تسليم قيادة المنطقة إلى هذا العدو، وتوظيف الإمكانيات العسكرية العربية لحماية أمنه الذى تقوم فلسفته الأساسية على القضاء على الوجود العربي. وتجريده من كل عناصر القوة والأمن والقدرة على الدفاع عن النفس.
أنها هزيمة أخطر من كل هزائمنا الكبرى فى 1948 و1967 وكامب ديفيد وأوسلو والغزو الأمريكى للعراق، إنها أم الهزائم:
ففى 1948 كانت النكبة والهزيمة التى لحقت بستة جيوش عربية، واحتلال 78% من أرض فلسطين، هى النتيجة الطبيعية لأمة تقبع تحت الاحتلال الأوروبى منذ عقود طويلة. وكان وقتها العالم بعد الحرب العالمية الثانية على شفا تغيرات كبرى تتبدل فيه مراكز القوى العالمية. وتسلم القوى القديمة الراية للقوى الجديدة التى برزت بعد الحرب. وكان مخاض ثورات وحركات التحرر الوطنى فى العالم العربى وكل بلدان العالم الثالث يختمر للخروج من قبضة الهيمنة الأوروبية. أى أن الظروف الدولية والإقليمية والداخلية كانت كلها مهيئة ومبشرة وواعدة بالخروج من عصر الهزيمة والاستعمار. وإعادة بناء النفس وترميم ما انكسر وهو ما حدث بالفعل فى السنوات من 1956 حتى 1973.
أما بعد 1967 ورغم الهزيمة القاسية والمهينة واحتلال ما تبقى من فلسطين بالإضافة لسيناء وهضبة الجولان. فلقد رفض العرب شعوبا وحكاما الهزيمة والتوقيع على وثيقة وشروط الاستسلام وتمسكوا وأكدوا على الثوابت العربية والفلسطينية فى مواجهة الادعاءات الصهيونية والإملاءات والضغوط الأمريكية. وأصدروا بيانهم الشهير فى مؤتمر الخرطوم وشرعوا على الفور فى التضامن والإعداد لمعركة تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان التى كانت حرب 1973 هي ذروتها.
اتفاقات كامب ديفيد
وحتى جريمة توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر و(إسرائيل) وما وجهته من طعنة فى الظهر لفلسطين والأمة العربية وأمنها القومى، بعد انسحاب مصر من الصراع والإخلال الرهيب بميزان القوى. والتنازل المصرى الرسمى عن فلسطين 1948 للعدو والاعتراف بشرعية دولة الاحتلال. فلم تكن رغم قسوتها هى نهاية المطاف. فلقد اجتمع الجميع أنظمة وشعوبا وفي القلب منهم الشعب المصرى على رفض المعاهدة والتمسك بالثوابت العربية من تحرير كامل التراب الفلسطينى ومناهضة الصهيونية و(إسرائيل). وتأسست مئات الحركات واللجان الشعبية لدعم فلسطين ومقاطعة (إسرائيل) ومقاومة التطبيع. وأعلن النظام العربى الرسمى حينذاك، صدقا أو نفاقا، رفضه أي سلام “منفرد” مع (إسرائيل) إلى حين.
وأيضا بعد توقيع م.ت.ف على اتفاقيات أوسلو وانكسار إرادتها بعد أن أخرجها الاجتياح الإسرائيلى من لبنان. وقيامها بالاعتراف بإسرائيل والتنازل عن فلسطين 1948 وعن الحق فى المقاومة. سرعان ما تكونت أجيال جديدة من المقاومة التى استطاعت أن تطرد الاحتلال عام 2000 من لبنان وتصد عدوانه 2006. وفي الأرض المحتلة تصاعدت العمليات الاستشهادية وحاول أبو عمار الانعتاق من قيود أوسلو خاصة بعد اجتياح شارون للمسجد الأقصى وتفجر انتفاضة 2000 العظمى التى هزت المنطقة وكل العالم. والتى استطاعت فرض مطالبها وأجندتها على عديد من الدول العربية بما فيها مصر كامب ديفيد. التى أطلقت قيادتها السياسية حينذاك أيدى الإعلام والمعارضة السياسية لدعم فلسطين وتنظيم اللجان الشعبية لدعم الانتفاضة..الخ، ليتعمق مجددا العداء العربي (لإسرائيل) شعبيا ورسميا.
أما الاحتلال الأمريكى للعراق فى 2003 بعد 10 سنوات من الحصار، في أول عدوان عسكري غربي على بلادنا منذ الحرب العالمية الأولى. والذى كشف وفضح انتهاء صلاحية النظام العربى الرسمى وسقوط شرعيته إلى الأبد. فإنه رغم قسوته قام بإطلاق طاقات الغضب العربي الشعبي والسياسي فى العالم العربي من محيطه إلى خليجه. والذى كان هو المقدمة الرئيسية التي أدت بعد ثماني سنوات إلى تفجر انتفاضات وثورات الربيع العربي فى 2011. والتى كانت نقطة فارقة فى تاريخ العلاقة بين الشعوب وأنظمة الحكم، رغم أنها لم يكتب لها النجاح والاستمرار.
الخلاصة
الخلاصة أنه رغم مرور الوطن العربى وتعرضه لعديد من الاعتداءات والهزائم منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أنها لم تصل أبدا إلى ما وصلنا إليه اليوم من انتقال النظام العربى الرسمي بغالبية دوله وأنظمة الحكم فيه إلى معسكر العدو الصهيوني تحت القيادة الأمريكية. للتحالف معه ضد فلسطين وضد الأمة وأمنها القومي الوجودي وضد مصالحها العليا ومستقبل أجيالها القادمة. فى ظل قبضة فولاذية من الاستبداد تكمم الأفواه وتصادر الحريات وتطيح بأى معارضة أو رأى آخر. بحيث لم يبق فى المشهد ولأول مرة، سوى الشعب الفلسطيني بمقاومته الشعبية والمسلحة.
والمفارقة الكبرى هنا أن أنظمة الحكم العربية التي قامت بالانقضاض على الثورات العربية وأجهضتها وعصفت بكل من شارك فيها. فعلتها بذريعة أنها لم تكن سوى مؤامرات خارجية تستهدف إسقاط الدولة الوطنية. وأنه يتوجب القضاء على هذه الثورات/المؤامرات لإنقاذ الدولة والحفظ عليها. فإذا بالخطوة الأولى التي تتخذها تحت شعار إنقاذ دولها الوطنية هى الارتماء فى أحضان مايسترو المؤامرات الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية. والانخراط فى أحلافه الإقليمية تحت قيادة (إسرائيل).
إن أي مقارنة بين قوة وحيوية وثورية وفاعلية ردود الفعل الشعبية بعد 1967 أو بعد غزو العراق على سبيل المثال، وبين حالة الصمت المخزي التى ضربت الغالبية العظمى من قوى وحركات المعارضة العربية اليوم. تكشف عمق الأزمة التى تمر بها بلادنا. وضخامة الجهود المطلوبة للخروج منها والنجاة مما يمكن أن يترتب عليها من عواقب كارثية لسنوات وعقود طويلة قادمة.
هذه دعوة لسرعة التداعي والتلاقي والحوار والفعل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
* كاتب مصري.. مؤسس حركة مصريون ضد الصهيونية