الصراع القائم في إسرائيل بسبب من محاولات حسم شكل الدولة وجوهرها عبر ما يُعرف ب “الإصلاح القضائي” إمتد وعكس نفسه بقوة على طبيعة العلاقه بالحلفاء الغربيين وأهم هؤلاء الحلفاء هي الولايات المتحدة الأمريكية، وتقريبا كل “الجاليات اليهودية” التي رأت بما يطبخه رئيس الوزراء “نتنياهو”، المحاصر من “ليفين-روتمان” من الليكود والصهيونية الدينية، و “سموتريطش – بن غفير” من الإئتلاف، لا يعدو سوى إنقلاب على قيم ومفاهيم وثقافة الدولة التي تأسست عليها من جهة، وتحضير الأرضية التشريعية والقانونية من جهة أخرى لمسألتين، “حسم الصراع مع الفلسطينيين في الضفة والقدس، والإلتفاف على تُهم الفساد الموجهة لِ “نتنياهو”، بمعنى حسم مُستَعجل لواقع وطبيعة الدولة الصهيونية من حيث هويتها الموغلة في اليهودية كواقع منذ التأسيس، وما قانون “القومية” و “الإستيطان” في الضفة والقدس، وظهور مليشيات المستوطنين “إم ترتسو ولاهافا ولا فميليا” والتي سيتم تشريعها في ما يسمى “الحرس الوطني” إلا مظاهر لذلك الحسم المطلوب وتحت يافطة ما أسموه “الإصلاح القضائي”.
لا شك أن الواقع البنيوي للنظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي في دولة إسرائيل يعكس نفسه بقوة على خارطة الصراع القائمة، كون هذا الصراع بدأ مع تأسيس دولة المستوطنين المهاجرين منذ إعلان “بازل” وحتى قيامها الفعلي على أنقاض الشعب الفلسطيني عام 1948، وهنا أشير إلى أن جوهر المسألة إرتبطت بِ “المسألة اليهودية” في “أوروبا” قبل أي شيء آخر، وظهرت الحركة الصهيونية كإمتداد طبيعي للإستعمار الغربي والإمبريالي لتؤسس دولة في المشرق العربي تؤدي خدمات إستعمارية للغرب وتحل مشكلة اليهود في أوروبا، ولكن منذ أن قررت الحركة الصهيونية أن “فلسطين” او ما أسموه “أرض الميعاد” “أرض السمن والعسل” “أرض الرب” هي الجغرافيا لدولة اليهود فقد وضعت بهذه المصطلحات التوراتية اللبنة الأولى للتناقضات التي ستظهر بعد حين، لأن الحركة الصهيونية هي حركة إستعمارية علمانية بقيم وثقافة أوروبية ولاحقا ليبرالية أمريكية تؤسس دولة تستند لوعد توراتي رباني لليهود وتستغله لجلب يهود الشتات وتحت عنوان “نفي النفي” وهذا أولا، وتبدأ عملية تهجير اليهود للدولة الجديدة وتحت عنوان ديمغرافي أكثر من كونه يهودي أيديولوجي “هنا أقصد اليهود العرب”، في حين تأخذ بركة التيار الديني الأرثوذكسي الحريدي مقابل بقاء أسس اليهودية وفقا لشريعتهم وتوراتهم وأصوليتهم، فهم يعترفوا بالدولة مقابل أن يعيشوا في “غيتاوات” داخلها وفقا لمعتقداتهم، وهذا ثانيا.
لذلك منذ التأسيس أي منذ عام 1948 لم تستطع الحركة الصهيونية عبر حكومات الماباي “حزب العمل” حاليا خلق هوية حقيقية يُعتد فيها وتكون هي اساس للكل “الصهيويهودي” رغم كل محاولات ما أسموه “بوتقة الصهر” وكل محاولات “الأسرلة”، فالدولة المتشكلة من مهاجرين يهود والذين أتوا من إثنيات مختلفة ومن بيئات وثقافات مختلفة لم يجمعهم سوى مفاهيم إستعمارية إرتبطت بالأمن والرخاء الإقتصادي ومفهوم “اليهودية” كدين وليس كهوية، لذلك حاولت الشريحة “الإشكنازية” التي أسست الدولة وفق شروطها أن تفرض على بقية الإثنيات ثقافتها الغربية ذي القيم الليبرالية رغم أن ذلك يتنافى مع مفهوم “اليهودية”، لذلك ظهر في الدولة كما قال رئيسها الليكودي السابق المؤيد للإستيطان “رؤبين ريفلين” أربع قبائل تتعايش وتتصارع فيما بينها وهي ” العلمانيون والصهيونية الدينية والحريديم والعرب”، حيث دعا في كلمته أمام مؤتمر “هرتسيليا للمناعة القوية” في نسخته رقم “16” إلى صياغة “هوية إسرائيلية مشتركة جديدة” مطالبا “العرب والحريديم” لتحمل العبء “القومي” وهنا يقصد “التَجَنّد”، وهذا إعتراف واضح بأن لا هوية “جامعة” لدولة المهاجرين اليهود، ولن تكون لهم هوية قادرة على إستيعاب كل هذه الإثنيات وكل هذا المشارب الثقافية المختلفة، خاصة أن “اليهودية” ليست سوى تعاليم دينية لا يمكن التزاوج بينها وبين تعاليم العلمانية والليبرالية الحديثة.
إذا طبيعة الصراع القائم ليس حول قوانين وتعديلات قانونية بقدر ما هو تعبير واضح عن التناقضات التي كانت غير ظاهرة بين مختلف التوجهات الإثنية والدينية والتي لم يحسمها إعلان التأسيس ولا وثيقته، بل طبيعة سيطرت شريحة “الإشكناز” على الدولة هي من أجّلَت ظهور التناقض الذي طفى على السطح وبقوة نتيجة محاولات حسم شكل الدولة المستقبلية، دولة “الصهيويهودية”، فالحركة الصهيونية العلمانية حملت في داخلها “الطفل” الذي سيترعرع ويكبر ليقوم لاحقاً بإزاحتها لإعتبارات موضوعية أساسها مرتبط بما قامت به هذه الحركة العلمانية بإحتلال “الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة”، أرض التوراة التي تحمل كل رموز التوراة وكل تاريخ ما أسموه “الشعب اليهودي”، وهنا نتحدث عن هوية تستند لتعاليم دينية عنصرية وفاشية نمت وتطورت في حضن الحركة الصهيونية الأم، لذلك ظهر في الدولة “البنغوريونية” حركة يمينية قوية تستند لتعاليم “جابوتنسكي” ومتجذرة دينيا، فتشكل ما يُعرف بِ “الصهيونية الدينية” والتي ترى أن الحركة الأم إنحرفت عن مسارها وهي التي ستعيد ذاك المسار، بتأسيس “إسرائيل” التاريخية وفقاً لروح التعاليم التوراتية، دولة “هلاخاة” عنصرية فاشية لا تقبل الغير وتسميهم “أغيار” وفقا للشريعة.
نحن أمام مشهد يختلط فيه الأيديولوجيا والدين والعنصرية والفاشية والمآرب الشخصية، كلها إجتمعت في حكومة “نتنياهو” الجديدة، وهي حكومة يمينية قومية صهيونية متطرفة، وجدت ضالتها بفوزها في الإنتخابات الأخيرة لتحقق ما تصبوا إليه من وضع حد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جهة، ولتهيمن على مفاصل الدولة الصهيونية من جهة أخرى، لأن ما تطرحه من تعديلات قانونية على السلطة القضائية سيمكنها ليس فقط من تنفيذ برنامجها الفاشي العنصري، بل والسيطرة العميقة على “الدولة العميقة”، أي دحر المؤسس ومفاهيمه بلا رجعة، ولتصبح الديمقراطية التي يتغنون بها مرسومة برسم اليمين الصهيوديني، ديمقراطية “الهلاخاة” التي سيكون سيفها مسلط على كل من يعارضها مهما كان عرقه أو دينه أو جنسه، وعليه نرى الإستماتة من قبل المعارضة لمنع تطبيق ذلك، لأنه يحمل بذور تدميرية وليس إنقسامية فحسب.
معضلة هذه الحكومة أن دولة الكيان الصهيوني ليست ذات سيادة كاملة، صحيح أن دولة “إسرائيل” مستقلة ولكن من حيث “السيادة” فهناك مشكلة، لأنها ترتبط إرتباط وثيق بالغرب وبالذات بِ “الولايات المتحدة الأمريكية”، وبدون الدعم الأمريكي الذي يتمثل في كافة الجوانب من حيث “الأمن القومي وميزانيات الأمن والدعم التقني والتكنولوجي والحاضنة الدولية الحامية لها وليس أخيرا التدخل العسكري في حالة التهديد الوجودي للدولة” وهنا تكمن القصة كلها، لأن هناك مسافة بين “الإستقلال” وبين “السيادة” وبالتالي للولايات المتحدة الأمريكية كلمة الفصل، وما يجري في الداخل الصهيوني سيزيد الأزمة ويوسع الفجوة بين الحليف الإستراتيجي الذي لا غنى عنه وبين دولة “إسرائيل”، لذلك لاحظنا التدخل الأمريكي المباشر والطلب بشكل مباشر من قبل الرئيس الأمريكي “بايدن” لأن تكون التعديلات المطروحة بناءاً على أكبر قدر من التوافق بين مختلف الأحزاب والتوجهات، إضافة لعدم إستقبال “نتنياهو” في البيت الأبيض.
ورغم ذلك، أعتقد شخصيا أن “نتنياهو” سيبقى يُخادع وسوف يعمل على كسب الوقت حتى تصبح الولايات المتحدة في أتون الإنتخابات وبما يسمح له ذلك من القيام بمناورات ستؤدي لتحقيق بعضاً مما هو مطروح أو الذهاب ليقود إئتلاف جديد بدون “الصهيونية الدينية” لكي يستطيع الهروب من ثقل هذه “التعديلات” شرط أن يحصل على الحصانة الكاملة بما يتعلق بتهم الفساد ضده، طبعا يُضاف لذلك سيناريو الهروب للأمام عبر توجيه ضربة إستباقية في جبهة الشمال إذا ما وصلت الأمور للحضيض في داخل الدولة بين دولة “تل أبيب” ودولة “اليمين القومي الصهيوديني”، وهناك سيناريو آخر ممكن وطرح سابقا وهو مطروح حاليا، ومفاده أن يؤدي الصراع القائم للتوصل إلى تسوية بإقامة دولة “يهودا” في الضفة الغربية والقدس، دولة “الصهيونية الدينية” مقابل بقاء دولة “تل أبيب” الليبرالية، لنكون امام مشهد تاريخي “توراتي”، دولتي “إسرائيل” و “يهودا”، اي أن مجمل الصراع القائم سيكون ضحيته مرة أخرى الشعب الفلسطيني في نكبة جديدة واقعية وممكنة ولكن ليست حتمية لأنها لن تأخذ شرعية دولية كما حصل في النكبة الأولى.
همسة
إن المسافات تتباعد والفجوات تتصاعد، والكيان العنصري منقسم ومجروح وقريبا سيصل لمرضٍ عضال، وشفاؤه لن يكون على المدى القريب، لذلك هناك خوف حقيقي بأن يقوم هذا الكيان بمغامرة أمنية كعلاج سريع لمنع تسمم وأستفحال هذه الجروح، ولتكون بمثابة إستراحة العاصفة كبديل عن الإعصار الداخلي الذي يتدحرج بسرعة مرئية وغير مرئية.