إن الشعر العربي القديم لصيق الصلة بالزمن التاريخي للإنسان العربي وكونه الحيوي ( المكان ، البيئة ) ، يكاد يكون ظله الملازم،وللصميم من شعوره خادم،ولاشيء يعدله “كالماء” في سفر وحضر، فهو الصاحب المؤنس ، والمخلص المنفس ، ثم إنه الناطق الواصف لأيام وتصورات وقضايا ومشاعر وأحلام ، تسير أغراضه على إيقاع رياضي مركب منظوم ، كأنه الوشي المنمق المرقوم .
وعلى منواله نسج الشعراء الصعاليك بنية شعرهم الفنية والجمالية، غير أن شعرهم يحمل بصماته :علاماته صوره،رموزه وايقوناته الثقافية : (كونه السيميائي / كونه الحيوي ) ، يستفز قراءه بجدته وأصالته كنص مثير للدهشة والغرابة بما يتضمنه من منطق تفكير مغاير للسائد القبلي المعهود … يسافر بهم بلا موعد صوب التفكير خارج الصندوق الأرضي ، جاذبا إياهم نحو السياحة في عوالم خاصة مستنفرا للحظات طاقاتهم الفكرية والخيالية ، مفصحا لهم عن المكان في انسياب الزمان ، وما اكتسبه من معان وجدانية ودفقات شعورية ، تعبر عن نمط وتمثلات خاصة في التفكير والثقافة والمجتمع وتعارضات فرضها الصراع من أجل البقاء ضمن الفضاء الصحراوي القاسي بين الهامش والمركز.
شعر الصعاليك يحيل على عوالم تنبي وتفصح عن واقع نضالي خشن متدثر بالخيال الجميل الشفيف، يكشف عبر مختلف أغراضهم الشعرية عن العديد من القضايا الحيوية ، ذات الصلة بكونهم السيميائي وتصورهم للحياة ضمن فضاء صحراوي لامتناهي ، يمتاز بعنصر المفاجئة .
من هنا نقر بأن الشاعر ابن بيئته ، ونسلم بأن شعره كذلك ، فإن هذه الحقيقة تتفق مع ماطرحه الفيلسوف الروسي يوري لوتمان في إطار نظريته سيميوطيقا الثقافة (سيمياء الثقافة) كما يسميها الدكتور عبد الله بريمي ، من كون العلاقة عميقة بين الكون السيميائي والكون الحيوي … فالمبررات العلمية التي قدمها عن الكون الحيوي بكل ظواهره القابلة للملاحظة والتجريب “ تنسحب في بعض جوانبها على الكون السيميائي للثـقافة الإنســانية، والتي يمكن أن تتخذ مرتكزا لدراسة الأنساق الثقافية، والاجتماعية والأدبية
وضمن هذه الأخيرة” الشعر” عامة وخاصة الشعر العربي القديم … باعتباره منتوج إبداعي لإنسان يعيش ضمن مُحيطه الحَيَوي، فوجوده هو الذي يعطي للحياة والكون معنى ، ولا يمكن أن يُدرك ذاته بمعزل عن هذه الذات، يقول موريس ميرلوبونتي في السياق الغربي : ” الإنسان جسد العالم ” ويقول علي بن أبي طالب في السياق العربي في أحدى قصائده الشعرية : ” الإنسان الكتاب المبين للعالم “
أَتَزْعُم أنكَ جِرمٌ صَغيرٌ
وفيكَ انطوَى العَاَلمُ الأْكبرُ
فَأنْتَ الكِتَابُ المُبينُ الذِي
بِأحْرُفِهِ يَظهَرُ المُضْمَرُ
وَمَا حَاجَةُ لكَ مِنْ خَاِرجٍ
وِفكْرُكَ فِيكَ ومَا تُصْدِرُ
فلا دلالة للكائنات والعوالم المختلفة ضمن الزمان والمكان في غياب الإنسان، فالإنسان هو الذات والعقل والوجدان…هو صانع لغة الإحساس بالمكان والزمان يتمثله باللّغة والرمز، والشعر والأثر والصورة والأسطورة …
وهذه مقاربة نحاول من خلالها التقاط بعض الإشارات من نظرية يوري لوتمان لاستكناه بعض من نصوصهم الشعرية ، والإبانة عن جوانب من كونهم السيميائي لمبدعين “أطلق عليهم صعاليك” عاش بعضهم في العصر الجاهلي وآخرون في صدر الاسلام في مكان ما، في زمان ما، نرصد بعضا من المتداول في شعرهم ونميط اللثام عن بعض الظاهر والمسكوت عنه في شعرهم .
نحن إذن نقارب نصًوصا شعرية قديمة باعتبارها نصوصا لغويًة مستلقية على ورق في ديوان، أو مستوطنة نافذة أو عمودًا في صحيفة أو مُمددة عموديًا أو أفقيًا في كتاب، أو متجلية كصورة وكَمُعطى رقمي أوصورة في منصة تفاعلية ما، محتلة مكانا رمزيًا.. معلنة انفتاحَها على تعدد القراءات، والرؤى، داخلة مباشرة في نطاق التداول والتأثير، بوجهات نظر شتى … نراها عيانا ونتصور تشكلها ذهنيًا كوجود بالقوة والفعل من لدن ذات مُبدعة، بدايةً ومسارًا ومجرًى ومُستقرًا.. إنها في مجموعها تشمل نصا قائمَ الذات، سائقًا لسرب من الدلالات، فكلماتُه – وأستعير ما دُمنا نتحدث عن الكون السيميائي في شعر الصعاليك التعبير الموحي لابن عربي – إن ” الحروف أمة من الأمم” – تتجلى بتركيبها وانتظامها كلمات وجملاً دالة.. أرتالًا على الورق ضمن المتن الشعري العام الوارد في الدواوين والمختارات الشعرية القديمة… بحبر سفك منذ أمد لتعلن عن نفسها، معربة عن حياة كاملة آسرةٍ لشعراء اتخذوا من “الصعلكةِ” حرفة ونمطَ عيش. فشعرهم ينطق بأثر المكان (رسوما وظلالًا، ورُقومًا وديارًا، ووشمًا وأثافي … يتحدثون بحس متفرد يغشاه الفرح والترح والدموع، والخشونة واللّين.. أتى شعرهم إلينا على راحة راحلة (عمرو بن العلاء إلى أبي العلاء المعري …) غابرين في الأزمان، مرويًا أو مكتوبا يطل علينا هؤلاء (الاخباريون ، واللغويون ، الأدباء ، والشعراء والنقاد …) قد لا نحصيهم عددًا، رووا وأملوا شخوصه وأحداثه.. إنه الشعر بخياله وجمال واقعه الذي يزاحم ليالينا ونهاراتنا، في غدونا ورواحنا .
إن الباحث إذ يرى المكان (الشعري) (المظهرالجغرافي) الحيز” ” المنزل ” ” الدار ” ” الشعاب، الجبال ” القفار” “خيام القبيلة ” بصغرها ” الصحراء ” بشساعتها عيانًا وينظر إليها من خلال العالم الموازي الذي هو الشعر يجدونها قد اكتسبت ظلالًا وهالاتٍ ومعانيَ عدة في سيرورة الحركة القرائية الدائبة قد يرى في تضاعيفه ما لانرى وهذه خاصية من خصائص الابداع الشعري الخالد المتجدد يمتاز بها شعر الصعاليك .
فالباحث وبمتعة مرافقة لا يمتعض أبدًا لمّا يمضي بعيدًا بالبحث والتنقيب “الممتع المضني” في الآنِ نفسِه ، في أرض الترسبات وتشكل الطبقات، لا عن المركز فقط وإنما يذهب بميل- جارف أحيانا – ليكتشف الهامش العميق المختفي المفصح عنه من خلال الأبعاد الدلالية الثاوية في النص، والتي تلبس بها المكان لدى الشاعر الصعلوك ، وهو على علم أن كنه المكان تتعدد معانيه بتعدد الصور والخيال المجسد بالكلمات والعبارات الناطقة لدى كل شاعر، وفي تضاعيف شعره يحتل المكان ذهنَه وذاكِرتَه ، مكان تواجد القبيلة (الأصل) الذي لا يمكن نسيانه أو تجاهلَه ، رغم أنه هجره قسرا وظلما ، واختياره لمكان آخر، لابد أن يكون لهُ الأثرُ النفسي البالغ .
: حركة الصعاليك عبر المكان
امتاز الشعراء الصعاليك وهم يتنقلون عبر أمكنة وقرى وديار القبائل في شبه الجزيرة العربية ب “سرعة الحركة والعدو” بل إننا نجد في أمهات الكتب الإخبارية في ذلك أمورًا تفوق التصور، وهم كذلك أعلم الناس وأكثرُهم دراية بدروب الصحراء، ومسالكها فقد اتخذوها ملجأ وملاذا.. تكيفوا معها وخبروا الحياة في أحضانها، وفيها برزت شجاعتهم ومغامراتهم لا يبالون بالأهوال، مخاطرين بحياتهم لتحقيق غرض شريف في نظرهم هو مسح دموع البائسين، بسلب أغراض وأموال الأغنياء البخلاء، إذ يرون فيهم أعداءً للإنسانية، كما أنهم لا يخشون الموت في سبيل ذلك إذ هو بالنسبة لهم “حتمية ومصير” يقول عروة بن الورد مخاطبا زوجته:
ذَرِينِي ونفسِي، أمَّ حسانَ إنّني
بِهَا قَبلُ لَا أمْلِكُ البَيع، مُشتري
أحاديث تبقى والفتى غير خالد
إذا هُو أمْسَى هَامَةً فوقَ صَيّر
ذريني أطوف في البلاد لعلَّني
أخليك، أو أُغنيك عن سُوء مَحضَرِي
فــــإن فَــــاز سَهْم للمنية لَم أكُن جَزوعًا، وهَل عَن ذَاكَ مُتأَخرٍ؟
تفاعل الشاعر الصعلوك مع المكان واستغلاله لصالحه:
كانوا في تنقلهم عبر الصحراء ليلا لا يهجعون إلا قليلًا يقول عَمْرو بن برّاقة
تقولُ سُليمَى: لَا تُعرَّض لِتلْفــةٍ
وَلَيلُك عن لَيْل الصَّعاليك نائــِــمُ
وَكيْف يَنَامُ اللَّيلَ من جـُـــلّ مَالِه
حُسَامٌ كلَونِ المِلْح أبْيضُ صَارِمُ
ألَمْ تعلمِي أن الصّعَاليكَ نَومُهمُ
قَليلٌ إذَا نَام الخليُّ المُسَالـِـــــــمُ
وهم يجلسون في الأماكن العالية كالروابي والكدى والجبال أو يلْبَدون تخفيا في جُرَفِ الشعاب والوديان يراقبون المكان حتى يتجنبوا مباغتة أعدائهم، وسنقف برهة على بعض الدلالات التي حملتها هذه الأماكن في أشعارهم:
– الصحراء اللامتناهية :
ارتبطت حياة العربي منذ القديم بالصحراء فهي تمثل الوطن ، فرغم سكنها القاسي وشح جودها وعطائها فقد سطروا نمط وملامح حياتهم الخاصة .
هذه الحياة صورها الشعر العربي القديم بأمانة وصدق في حال حلهم وترحالهم، فلا تكاد توجد قصيدة جاهلية إلا وذكرت فيها الصحراء بألقابها وأماكنها المتعددة، التي وقف الإنسان العربي الشاعر بها، دالا وشاهدا على صفاتها وطبيعتها جنوبا وشمالا وشرقا وغربا وجوفا، فقد ألفَ العربُيّ استخدام ألقابٍ متعددة ومتنوعة بحسب الخصائص التي تنفرد بها قطعة ما من الصحراء تمييزا لها عن باقي الصحاري الممتدة … وتعلقت هذه الصفات على العموم بشاعتها كما قلنا سابقا “كحيز جغرافي” ممتد ولامتناهي، يصور قساوتها وجفافها. وحر هجيرها، ورمالها، وأحيانا بخلوها من الناس، ورهبة كثبانها الرملية ووحشتها لقد كانت موطن الصعاليك، وملاذَهم الآمن.. إذ كانوا الأقدر من غيرهم على التأقلم مع ظروفها القاسية وسبر خباياها، والغوص في أعماقها، ومعرفة مسالكها وشعابها وحيواناتها، والتآلف مع شروطها التي كانت تفرضها على من يرتادها ، فأكسبتهم خَصَائصُها حافزا للتحدي أضيف إلى عوامل أخرى كانت الحياة قد فرضتها هي الأخرى عليهم، وكل ذلك ساهم في بلورة شخصيات وطباع هؤلاء الصعاليك فاكتسبوا الصبر، والجلد على تحمل الصعاب من تعودهم على حر و غَلواء قحط الصحراء فتحدوا ظروفهم، وأعداءهم، وتغلبوا على الوحوش الضارية ، وحيات الرمضاء، وانطلقوا مسرعين في الفلاة كسرعة الريح بين الرمال المتقلبة تُحركها وتغير شكلها الدائم .
طاروا في فضاء امكنتهم واكنانهم وخيامهم وسطروا حياتهم، ولأنهم أدركوا سطوة، وبطش الصحاري، والقفار بمن يجهل خباياها، فقد حرصوا على معرفة كل تفاصيلها، ويتضح ذلك من تنوع ألقاب الصحراء التي وظفها الصعاليك في أشعارهم، فقد وجدت في دواوينهم أشعار حول الصحراء والبيداء والرمضاء، الفيافي الحارة صيفا، الشديدة البرودة ليلا، وقفار موحشة خلت من ساكنيها. وفلاة وقادة صيفا من دون كلأ وماء، لا إنسانٌ ولا وحِشٌ بها يسير ولا طائر يطير.
الحيوان رفيق وأنيس الشاعر الصعلوك في المكان:
فما هي إذن الدلالات والمرجعيات الثقافية والإنسانية التي يمنحنا إياها الشاعر من خلال تعامله وتوظيفه للحيوان؟ وكيف إذا كان هذا الشاعر من فئة الصعاليك الذين تمردوا عن سلطة القبيلة، واختاروا التحرر وتكوين شخصية فردية مستقلة بآرائها وفلسفتها الخاصة في الحياة المناقضة لكل العادات والأعراف التي تتبناها القبيلة؛ من وحدة قبلية وسلطة راجعة لشخص واحد يسمى شيخ القبيلة، قصيدة الشنفرى فيها احتفاء كبير بالحيوان، كيف لا وهو الشاعر الذي اختار جنس الوحوش رفيقا :
” الذئب : سِيدٌ عَمَلّسٌ” ، ” النمر : الأرقط زُهْلُول ” و”الضبع” : عَرفاءُ جَيْأل” أهلون وخلان بديلا عن قومه من بني سلامان بن مفرِّج ، القوم الذين خرج عن سلطتهم ، وعبر عن ذلك في لاميته المشهورة ، فعن هذا الموقف الذي اتخذه الشاعر من قبيلته ولجوئه إلى قبيلة بديلة هي ” قبيلة الحيوان ” ، تجده يتوجه بحديث ضمني ، موجه لقومه الذين خرج عليهم من خلال حديثه لحيوان الصحراء وكأنه يقول: أنتم يا بني “سلامان قوم ذل وظلم” في مقابل عالمكم الآثم عالم الحيوان الذي يأبى “الظلم والحيف والذل”، فهم أعلى مرتبة منكم وهم الأهل الذين تحبب السكنى معهم ومصاحبتهم، لكن رغم ذلك فإن نزعة العزة والفخر ، وتقدير الذات لا تسمح للشاعر أن يضع نفسه في نفس المستوى مع مجتمع الحيوان على الرغم من اختيارهم هم بدلا عن قومه من بني البشر، فلارتقاء السلالة البشرية مفعولها في نفس الشاعر يقول الشنفري الأزدي في قصيدته اللاّمية التي مطلعها :
أَقيمُوا بني أمّي صُدُورَ مَطِيِّكُم
فَإنِّي إِلى قَوْمٍ سِواكُم لأمِيلُ
فَقَد حُمَّت الحَاجَاتُ واللَّيلُ مُقْمِرُ
وشُدَّت لِطَيَّات مَطَايَا وَأرْحُلُ
وَفِي الأَرضِ مَنْأَى للكَريمِ عَنِ الأَذَى
وَفيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتَحَوَّل ُ
لعمرك ما بالأرض ضيق على امريء
سَرى رَاغبًا أو رَاهبًا وهُو يَعقلُ
ولي دونكم أهلونَ سِيدٌ عَمَلْسٌ
وأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفَاءُ جَيألُ
همُ الرّهط لَا مُستودعُ السِّر شَائِعٌ
لَديْهم ولاَ الجَانِي بِما جَرَّ يُخذُلُ
وَكُلُّ أَبِيٍّ بَاسِلٌ غَيــْــر أنَّنِي
إذَا عَرَضَت أولَى الطَّرائِدِ أبْسَلُ
وَإِنْ مُدَّت الأَيدِي إلَى الزَّادِ لَمْ أكُن بِأَعْجَلِهمْ إِذْ أَشَجعُ القَوْم أَعْمَلُ
وَمَا ذَاك إلَّا بَسْطةٌ عَن تَفَضُّلٍ
عَليْهم وكَانَ الأَفْضَلُ المُتَفَضِلُ
وبذلك يكون شاعرنا قد أعطانا فكرة عن الهرم المجتمعي الخاص به، حيث يتكون هرمه من ثلاث طبقات: عالمه (الشاعر) / الحيوانات / قومه في آخر السلم.
الشاعر يختار المكان نشدانا للحياة ورفضا للعبودية وتوقا للحرية:
رغم كون المكان موحشا وشحيح الموارد يقيم الشاعر الصعلوك فيه لكن بعزة وكرامة متحللا من قوانين القبلية التي تُرديه وتقيده وتجعله تحت نير الظلم والعبودية والقهر والبؤس الفكري
دلالة الزمان في شعر الصعاليك:
لئن كان لسيمياء المكان أهمية بالغة في النصوص الشعرية للشعراء الصعاليك فإن الزمان بوصفه سيولة منفلتة ومستمرة لمرور الوقت ورد في تضاعيف القصيدة العربية لكن ما مميزاته ودلالته السيميائية في شعر الصعاليك؟ وفي هذا الصدد يصبح إلزاما أن نضع السؤال التالي توفيرا للجهد والمسافة دون الحديث عن الدهر والزمن الأنطولوجي المطلق لأن ذلك يحتاج لبحث مستقل .
ماهي الأوقات الأثيرة بالنسبة للصعلوك للإغارة والفتك أو التربص بأعدائه من القبائل الأخرى؟
الزمان البسيط، والزمان المركب لدى الشاعر الصعلوك
تعددت دلالة الزمان في شعر الشعراء الصعاليك، نصادف في شعرهم ذكر الزمان البسيط في ثنائيته (نهار / ليل) وفي ساعاته المختلفة فهو الزمان القابل للتحديد والحساب والإحساس بمروره ليس أبلغ من الزمان القاهر ” الدهر ” ذو الأثر والوقع الثقيل الذي يدخل في معادلتين وجودييتين ( الحياة / الموت ) لكننا لن نعرج على هذه الثنائية لأنها لاتدخل في نطاق مقالنا هذا ، ولأنها قد تلقي بنا في عوالم لا حدود لها من التفسيرات والتأويلات لانحسب أننا سنخرج منها ولا الحديث عن ” النهار” لأنه قد يقسم ويتحول إلى وقت راحة وتفكير أو توزيع غنائم على الفقراء والجوعى لذا سنتحدث قليلا عن وقت الليل بالنسبة للشاعر الصعلوك أين يقضيه ؟ :
يقول عمرو بن برّاقة الهمداني مخاطبا زوجته حين هجم رجل من مُراد على بعض إبله وأراد استردادها:
تَقُولُ سُليمَى: لَا تُعرَّضْ لِتلْفــةٍ
وَلَيلُك عن لَيْلُ الصَّعاليك نائــِــمُ
وَكيْف يَنَامُ اللَّيلَ مَنْ جـُـــلّ مَالِهِ
حُسَامٌ كلَونِ المِلْح أبْيضُ صَارِمُ
ألمْ تِعْلَمِي أنَّ الصَّعَالِيكَ نَومُهُم
قليلٌ إذا نَامَ الخَلِي ُّ المُسَالِمُ
إن هذا البيت يحيلنا على الزمن المؤطر بوقت محدد “الليل”، لحظة السكون والهدوء والخلود إلى النوم وخاصة ” للخَلِي السالم من الهُمُوم ” ففيه ينعدم الرقيب، وفيه اختار الشاعر استرداد إبله المسروقة، مع أنه سبق لنا أن ذكرنا في السابق أن زجته حذرته من مغبة التلف “تقول سليمى لا تعرَّض لتلفَةٍ ” لكنه أصر وبعناد دون رهبة، الذهابَ لاسترجاع حقه المسلوب.
وهذا الأمر يذكرنا بقصة شعرية للشنفرى وردت في لاميته يصف فيها كيف أغار على قبيلة في جنح الظلام وأشبعهم قتلًا وهَرَّت كلابهم ثم عادت للخلود للنوم يقول:
وَلَيلَةِ نَحْسٍ يَصْطَلي القَوسَ ربُّها وأقْطُعَهُ التِّي بِهَا يَتَنَبَّلُ
دَعَسْتُ علَى غَطْشٍ وبَغْشٍ وَصُحْبَتي سُعَارٌ وَإرْزِيزٌ وَوَجَرٌ وَأَفْكُلُ
فَأيَّمْتُ نِسوَانًا وأيْتَمْتُ وِلدَانًا وَعُدْت كَمَا أَبْدَأْتُ واللَّيلُ أَلْيـــَلُ
وأصْبَحَ عنِّي بالغُميصَاء جَالِسًا فَريقَانِ مَسْؤُولٌ وآخرُ يَسْألُ
فَقَالُوا لَقَد هَرّتْ بِليْل كِلَابُنَا
فَقُلْنَا: أَذِئبٌ عَسَّ أَمْ عَسَّ فُرْعُلُ؟
فَلَم تَكُ إلَا نَبْأةٌ ثُمَّ هَوَّمَتْ
فَقُلْنَا: قَطَاةٌ رِيعَ أمْ رِيعَ أَجْدَلُ
فإنْ يَكُ مِنْ جِنّ لَأَبرَح ُطَارِقًا
وإِنْ يَكُ إنسًا مَاكَهَا الإِنْسُ تَفْعَلُ
[وليلة: مخفوض برُب المقدرة بعد الواو ومع ذلك فهي مرفوعة بالابتداء، لأن رب حرف زائد يدخل على المبتدأ، وجملة يَصطلي صفة ليلة وخبر المبتدأ في البيت الثاني / يصطلي من الاصطلاء: التسَخُّن بالنَّار / الدَّعس: الوَطْء / الغَطْش: الظّلام / البَغش: الخفيف من المطر / السُّعار: الجوع الشديد /
الإرزيز: شدة البرد / الوَجَر: الخوف وتقول العرب للوَجر أحيانًا الشوكُ المُلتف / الأفكُل: الرَّعدة /
أيَّمت: أرملت النساء: أي قتلت أزواجهن فتركتهن أيامى، وقتلَ الآباء فأصبح الأولادُ يتامى / الغُميصَاء: الموضع المُغار عليه أو المُجاور له / وآخر يَسأل بمعنى: فريق يسأل عما فعل في ليلته / فُرعل: ولد الضبع / نَبأة: الهَنَّة من الصوت / هَوَّمت: نامت الكلاب فلم تعد تهر / الطارق: النَّازل بليل بخير أو شر .
خلاصة :
لقد فقد الشعراء الصعاليك التوافق الاجتماعي مع قبائلهم، ومكانهم الأصلي، مما ترتب عليه تراجع منسوب الإحساس بالعصبية القبلية، والانتماء في نفوسهم. فمن الطبيعي ألَّا تظهر شخصية القبيلة عند شاعر فقد إحساسه بقومه وهو إحساس فردي حارق يستشعره الشنفرى الأزدي ” فإني إلى قوم سواكم لأميلُ ” قلت لأنه يؤمن بعصبية واحدة، ومذهب واحد هو التصعلك. والشاعر الصعلوك كان يعتد بشخصيته، كما يعتد رفقته وأصدقائه الصعاليك، فالفرد الصعلوك إنسان تمترس وتمرس على السَّطو والتربص والقتال، بحيث أصبحت له القدرة في الوقوف في وجه مجتمع بأكمله.
يتميز الصعلوك بتردده بين الواقع والمثال، والكائن والخيال، ذلك أن تركه القبيلة دفعه إلى البحث عن عالم جديد، وقيم مختلفة مضادة لكثير من أعراف القبيلة التي ظلمته، فصار يعيش حياة جماعية ابتكرها معتمدا الإغارةَ والمغامرةَ واختار قمم الجبال وأكنانها ومغاراتها، وكهوفها الخطرة مسكنا، مصاحبا للوحوش، مفتخرا بشجاعته استجابة لحب البقاء كغريزة إنسانية محاولا قلب المفاهيم القبلية.
وتتمة لهذا الاختيار الاجتماعي الحر المختلف أوجد صَوتًا شعريًا مغايرًا، يجسد البحث المُضني عن عن ذاته وعن عالم اجتماعي متكامل ، ثقافي فني ، فهجر “الطَّلل” والبكاءَ في شعره ، واعتمد لغة شرسة أفرزها الطبع والمعيش، وصار يكتفي ببعض المقطعات الشعرية لتصوير حاله بصدق، مخالفا في ذلك كثيرا مما قاله الشعراء المندمجون ضمن القبيلة ، وما كادت تُجمِع عليه، بل قد يخرج حتى على مقاييس اللُّغة والفن، تلك المقاييس التي كرَّستها القبيلة ضمن إطارها الاجتماعي و الثقافي العام، وهذا طبيعي لانتمائه الجديد لجماعة مشاكسة ثارت على كل شيء، وأنشأت نمطًا للحياة والإبداع ، وتتأرجح بين الواقعية والمثَالية، وإن كانت تستمد موضوعاتها من الحياة الصّحراوية المشتركة ، ليصب شعرها في الحياة مرة أخرى ، إن الإنسان الحاضر هو جسد العالم في ذاته وفي العالم وهو الكتاب المظهر للمضمر في هذا العالم .
بقلم : الصادق علوي للحدث بريس.