كأن الزمن السياسي لحزب العدالة والتنمية توقف، أو كأنه يعود إلى الوراء في دورة غريبة من الحنين والخوف. عبد الإله بنكيران، الرجل الذي حمل الحزب في لحظات صعوده وانكساره، يعود من جديد إلى القيادة بنسبة فوز كاسحة تجاوزت 70%. عودة لا تخلو من الدلالات: عن الحزب، عن قواعده، وعن اللحظة السياسية المغربية برمتها. ماذا يعني أن يستدعي حزب منكوبٌ زعيمه القديم في هذه اللحظة بالذات؟ وأي أفق ينتظر مشهده الداخلي؟ وأي صورة يرسمها لمستقبل السياسة في البلاد؟
رغم تدهور المكانة الانتخابية للحزب، أظهر المؤتمر الوطني نوعًا من الديمقراطية الداخلية النادرة في المشهد الحزبي المغربي. لم تسجل مظاهر العنف أو الفوضى، وتم التصويت في أجواء هادئة وإن كانت تخفي صراعات تحت السطح. الفارق الضئيل بين بنكيران ومنافسه إدريس الأزمي في مرحلة التصفيات الأولية كشف أن النتائج لم تكن محسومة مسبقًا، وأن جزءًا من القواعد كان لا يزال يبحث عن بديل، لكنه عاد في النهاية إلى الرمز الأكثر قدرة على إقناعهم بالحد الأدنى من الأمل.
فوز بنكيران لم يكن اختيارًا براغماتيًا بقدر ما كان تصويتًا وجدانيًا من قواعد شابة، صوّتت أكثر لقصة الحزب وتاريخه مع الرجل، لا لمشروع سياسي واضح. بدا المشهد وكأن قواعد العدالة والتنمية خافت من المغامرة ومن المجهول، واختارت العودة إلى المألوف، حتى لو كان هذا المألوف قد استنفد جزءًا كبيرًا من قدرته على التجديد.
مؤتمر الحزب كشف أيضًا عن فقر شديد في النقاش السياسي والبرنامجي. لم تطرح أفكار جديدة ولا رؤى استراتيجية لما بعد الانهيار الانتخابي. كانت المعركة بين أشخاص، لا بين أطروحات. لم يقدم بنكيران برنامجًا دقيقًا للأربع سنوات المقبلة، بل اعتمد كعادته على خطابه الشعبوي الحي، الذي يتأرجح بين الشكوى من الظلم وتقديم نفسه كضحية وكمنقذ في آن معًا. رهانه بقي كما هو: الاعتماد على الكاريزما والخطاب العاطفي بدل البناء البرامجي المدروس.
الأزمة المالية الخانقة التي يعيشها الحزب أضفت بعدًا إضافيًا على مشهد الانحدار. أن يضطر حزب قاد الحكومة لعقد من الزمن إلى جمع التبرعات عبر نداءات على الفيسبوك لتمويل أنشطته، ليس مجرد تفصيل تقني. إنه يعكس أزمة عمق أكبر في علاقة الدولة بالأحزاب، وفي تصور الديمقراطية ككل. ديمقراطية بلا أحزاب قوية ليست سوى واجهة شكلية.
بنكيران، في عودته الجديدة، لا يبدو مستعدًا لكسر قواعد اللعبة التي أتقنها لسنوات: التفاوض الدائم، الانحناء عند الحاجة، الهجوم اللفظي التكتيكي مع الحرص على عدم قطع الخيوط مع السلطة نهائيًا. فوضى خلاقة تتيح له أن يتحرك وسط المشهد السياسي الرمادي، مستفيدًا من كل فراغ ومن كل تردد. لكنه في النهاية يعبر الصحراء بشعار قديم: إذا خابت اليوم، فقد تزدان غدًا.
ختاما ، لا يمكن قراءة عودة بنكيران إلى الواجهة إلا باعتبارها علامة على ركود سياسي أوسع، تتداخل فيه مشاعر الخوف من المستقبل مع غياب البدائل الحقيقية. لا الحزب استطاع أن يولد رؤية جديدة من رماد الهزيمة، ولا السياق العام يسمح بولادة جيل سياسي مختلف.
في هذا الفراغ، تتغذى الأحزاب على ذاكرتها، ويتقدم الزعيم القديم مرة أخرى، لا لأنه يملك مشروعًا للمستقبل، بل لأنه وحده، وسط كل هذا الضباب، ما زال يحتفظ بصورة ظلية عن زمن كانت فيه السياسة ممكنة.