تُطرح العدالة المجالية في المغرب كإحدى القضايا المحورية التي تكشف عمق التفاوتات التي ما زالت تطبع العلاقة بين الحكومة والمجال.
ورغم الترويج الواسع لمفاهيم الجهوية المتقدمة والتنمية المتوازنة، فإن الواقع يؤكد أن التفاوت المجالي لا يزال قائماً، بل إن الفجوة بين الجهات آخذة في الاتساع، ما يضع موثوقية السياسات العمومية على المحك.
هذا التفاوت ليس طارئاً، بل له جذور تاريخية تمتد إلى الحقبة الاستعمارية التي أسست لما يعرف بـ”المغرب النافع” و”المغرب غير النافع”.
حيث تركزت الاستثمارات والبنية التحتية والوظائف في مناطق محددة، بالأساس في الشريط الساحلي الرابط بين طنجة والدار البيضاء، فيما تُركت مناطق واسعة من الجنوب الشرقي والشرق والريف لتدبر فقرها وتهميشها بهوامش ضئيلة من الاهتمام العمومي.
هذا التقسيم غير العادل للمجال لم يتم تجاوزه بعد الاستقلال، بل أعيد إنتاجه بصيغ جديدة تحت غطاء المشاريع الوطنية والتنموية.
ورغم إطلاق عدد من البرامج الكبرى مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والمخططات الجهوية والإستراتيجيات القطاعية، فإن أثرها ظل محدوداً على مستوى تقليص الفوارق بين الجهات.
العديد من المناطق التي يُفترض أن تشكل محاور تنموية مستقبلية، كدرعة تافيلالت أو بعض أقاليم الجهة الشرقية، ما زالت تفتقر إلى حد أدنى من البنيات الأساسية، من مستشفيات جامعية إلى طرق سريعة أو مناطق صناعية حقيقية.
ويكفي النظر إلى معدلات الهجرة القروية، أو نسب الفقر والبطالة، لفهم حجم التهميش الذي تعانيه ما يسمى بـ”المغرب غير النافع”.
هذا الواقع لا ينعكس فقط على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل يؤثر أيضاً على توازن العقد الاجتماعي.
فالإحساس بالحيف المجالي بات يغذي أشكالاً جديدة من الرفض والاحتجاج، ويؤثر سلباً على ثقة المواطنين في المؤسسات . ذلك أن غياب العدالة في توزيع الثروة والبنيات لا يُقرأ فقط كمشكل تدبيري، بل كعلامة على استمرار منطق التمييز المجالي.
في ظل هذا الوضع، تصبح الجهوية المتقدمة، كما تكرّسها الوثيقة الدستورية، مجرد أداة شكلية ما لم تُترجم إلى صلاحيات فعلية وآليات تمويل عادلة.
المطلوب اليوم ليس فقط نقل بعض الاختصاصات إلى الجهات، بل تمكينها من أدوات التخطيط والتنفيذ، وربط المسؤولية المجالية بمحاسبة ديمقراطية حقيقية. العدالة المجالية ليست مجرد ترف تقني، بل هي شرط أساسي لإعادة بناء الثقة والاندماج الوطني.
فحين يُعاد التفكير في المجال، لا باعتباره عبئاً أو مجرد خزان انتخابي موسمي، بل كرافعة تنموية ومجالاً للكرامة، يمكن حينها الحديث عن تجاوز ثنائية “المغرب النافع” و”المغرب غير النافع”.
أما في غياب إرادة سياسية جريئة لتفكيك المركزية المفرطة وإعادة توزيع الاستثمار العمومي بشكل منصف، فستظل العدالة المجالية شعاراً جميلاً معلّقاً على جدران المكاتب، لا واقعاً ملموساً في حياة المغاربة.