في عالمٍ يتسارع فيه إيقاع الأحداث وتتصاعد فيه الأزمات السياسية، تبرز الحاجة إلى مراجعة العلاقة بين السياسة والأخلاق. في هذا السياق، يُعيد كتاب “الإجرام السياسي” للمفكر الفرنسي لويس بروال تسليط الضوء على واحدة من أخطر القضايا: ماذا يحدث عندما تُمارس السياسة خارج إطار القيم الأخلاقية؟
صدر هذا الكتاب في أواخر القرن التاسع عشر، لكنه لا يزال يحتفظ ببُعدٍ نقدي عميق يتجاوز عصره. بروال يشنّ هجومًا لاذعًا على المدرسة الميكافيلية التي تبرر استخدام أي وسيلة لتحقيق الغاية السياسية، ويؤكد أن مثل هذا النهج لا يؤدي إلا إلى فساد المجتمعات وتفكك القيم العامة.
يتوسّع بروال في تعريف الإجرام السياسي ليشمل الجرائم التي تُرتكب باسم الدولة وتحت مظلة القانون، مثل القمع السياسي، واستغلال النفوذ، والفساد الانتخابي، وكلها أشكال من العنف الرمزي والمادي الذي يُمارَس ضد الشعوب. ومن خلال فصوله الاثني عشر، يُحلل كيف تُمارس هذه الجرائم عبر أدوات الحكم، وكيف تُستخدم القوانين أحيانًا لتكريس الظلم بدلًا من محاربته. يتناول بروال موضوعات مثل الرياء السياسي، الفوضوية، الفساد التشريعي، وتلاعب القضاء، ليُبيّن كيف أن تجاهل الأخلاق يُسهم في تآكل الثقة بين المواطن والدولة.
يشدد الكاتب على أن السياسة لا يمكن أن تكون سليمة إلا إذا قامت على مبادئ مثل الصدق، العدالة، والتسامح، داعيًا إلى إعادة الاعتبار للأخلاق كعنصر حيوي في العمل السياسي. كما يرى أن القيم الدينية يمكن أن تُعزز هذا الاتجاه، محذرًا من أن الابتعاد عنها يفتح الباب واسعًا أمام الانحرافات.
بعد أكثر من قرن على صدوره، لا يزال كتاب “الإجرام السياسي” يُحاكي واقعنا بصوت ناقد وحاد، ليذكّرنا بأن السلطة التي تُمارَس بلا ضمير، تتحوّل إلى تهديدٍ حقيقي للمجتمع. إنه عمل فكري يدعو السياسيين والمواطنين على حد سواء إلى التفكير في ثمن الانفصال بين السياسة والأخلاق.
هل السياسة بلا أخلاق ممكنة؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه لويس بروال، ويترك للقارئ حرية التأمل في إجابته، وسط عالم لا تنقصه الأمثلة.