يشهد مشهد ريادة الأعمال في المغرب تحوّلاً لافتاً، تُرجِم خلال السنتين الأخيرتين إلى طفرة في تمويل الشركات الناشئة، ما يعكس تغيراً نوعياً في بيئة الاستثمار والابتكار. فقد كشف تقرير مشترك صادر عن جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية ومركز Start-up Researcher عن تضاعف حجم الاستثمارات في الشركات الناشئة ثلاث مرات، منتقلاً من 26.2 مليون دولار في 2022 إلى نحو 95 مليون دولار في 2024.
هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الأموال، بل تدل أيضاً على نضج متسارع للنظام البيئي المغربي الخاص بريادة الأعمال، وتزايد ثقة المستثمرين المحليين والدوليين في قدرات الابتكار المحلية.
ما يثير الانتباه في التقرير هو الحصة الكبيرة التي استحوذ عليها قطاع تكنولوجيا السفر، حيث جذب أكثر من نصف إجمالي التمويلات (53.3%)، مدفوعاً بجولة تمويل رئيسية لشركة “نويته”، التي تحولت إلى قصة نجاح ملهمة في السوق المغربي والإقليمي.
ويبدو أن هذا الإنجاز ليس معزولاً، بل يمثل ثمرة لعدة عوامل، منها توفر فرق عمل كفؤة، نضج السوق، والتوقيت المناسب لإطلاق حلول رقمية تعيد تشكيل قطاع السفر والسياحة.
ورغم هذه القفزة التمويلية، بقي عدد الصفقات عند مستويات شبه مستقرة: 40 صفقة في 2024 مقابل 32 صفقة في 2022. وهو ما يعني ارتفاع متوسط حجم التمويل لكل صفقة، الأمر الذي يعتبره التقرير مؤشراً إيجابياً على جاذبية السوق المغربية، خاصة في ظل السياق الاقتصادي الدولي المتقلب.
وفي تصنيف القطاعات حسب عدد الصفقات، تصدّرت التكنولوجيا المالية (FinTech) بنسبة 27.5%، تلتها اللوجستيك والتنقل (17.5%)، ثم الابتكار التكنولوجي العميق (Deep Tech) بنسبة 10%، فيما جاء قطاع تكنولوجيا السفر في المرتبة الرابعة بنسبة 7.5%.
ويعكس هذا الترتيب اهتماماً متزايداً بحلول الدفع الرقمي والخدمات المالية المبتكرة، حيث برزت شركات مثل “إنياد” و“توكيز” كلاعبين واعدين في تقديم نماذج أعمال تعتمد على الربحية والاستدامة.
ولم تغب الفلاحة الذكية عن خارطة الاهتمام الاستثماري، حيث استحوذ هذا القطاع على 9.6% من إجمالي التمويلات، بما يتماشى مع التوجهات الوطنية لتعزيز الأمن الغذائي والتحول الرقمي للقطاع الفلاحي.
ويبدو أن التقنيات الزراعية الحديثة باتت تجد لها موطئ قدم في السوق المغربي، بفضل مشاريع تكنولوجية تُسهم في تحسين سلاسل التوريد وتدبير الموارد.
و رغم المؤشرات الإيجابية، لا يخفي التقرير وجود تفاوتات واضحة، سواء من حيث التوزيع الجغرافي أو الفجوة الجندرية في التمويل. فقد تركزت أغلب الاستثمارات في مدينة الدار البيضاء، التي عززت مكانتها كمركز مالي وريادي أول في المملكة، في حين عانت مناطق أخرى من نقص التمويل وضعف التمثيل في صفقات الاستثمار.
أما على مستوى ريادة الأعمال النسائية، فأبرز التقرير تسجيل تحسن ملحوظ في الحضور النسائي، خاصة في قطاعات صعبة مثل الخدمات اللوجيستية والتقنيات المالية. لكنه نبه في المقابل إلى استمرار وجود فجوات هيكلية في ولوج النساء إلى التمويل، رغم قصص نجاح واعدة.
و خلص التقرير إلى أن النظام البيئي المغربي لريادة الأعمال أبان عن متانة وصلابة، لكنه لا يزال بحاجة إلى دعم أكبر من المستثمرين المحليين والأجانب، إلى جانب تطوير التشريعات والأطر التنظيمية التي تضمن الشفافية والسرعة في تنفيذ المشاريع.
ويؤكد التقرير على ضرورة العمل على تعزيز التنوع الجغرافي والجندري في التمويل، وتوسيع البنية التحتية الداعمة للشركات الناشئة خارج المدن الكبرى، لخلق منظومة متوازنة وشاملة قادرة على تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل.