رغم الأهمية البالغة لمشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، صادق مجلس النواب، الثلاثاء الماضي، على هذا النص التشريعي الحيوي وسط حضور باهت لم يتجاوز 70 نائباً من أصل 395. هذه الصورة المتكررة داخل المؤسسة التشريعية لم تعد تمر دون مساءلة، إذ تثير جدلاً متصاعداً حول دور البرلمان وجدوى تمثيل النواب للناخبين في صيغته الراهنة.
القراءة الثانية لمشروع القانون رقم 03.23، المتعلق بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01، حظيت بموافقة 47 نائباً، مقابل اعتراض 15، دون أي امتناع عن التصويت. والمفارقة أن هذا النص القانوني يمس قضايا مصيرية، أبرزها تقييد اللجوء إلى الإكراه البدني، وتجريم الأموال ذات المصدر المشبوه، وتقليص مدد التحقق من الهوية، أي أنه يتناول محاور أساسية في ضمانات الحريات والعدالة الجنائية.
ورغم ذلك، لم ينجح النص في تعبئة الحد الأدنى من الحضور البرلماني، وهو ما يعكس خللاً بنيوياً في التفاعل مع القضايا التشريعية الجوهرية. فبدلاً من أن تكون الجلسة العامة منصة للتعبير عن التمثيل الشعبي والمرافعة عن القوانين، تحولت إلى مشهد صامت يغيب فيه النقاش ويغلب عليه الفراغ.
الظاهرة ليست جديدة. فقد تكررت في محطات تشريعية سابقة، أبرزها التصويت على القانون الإطار المتعلق بالصحة، ومشروع القانون الجنائي، ما يشير إلى أن الغياب لم يعد سلوكاً معزولاً، بل يُنذر بتحوله إلى “عرف مؤسسي” يُفرغ العملية التشريعية من محتواها الديمقراطي. الأخطر من ذلك أن الغياب لا يمس فقط الشكل، بل يُضعف مضمون التمثيل ويُقوض مشروعية القرارات الصادرة باسم الشعب.
هذا الوضع يطرح علامات استفهام بشأن مسؤولية الأحزاب السياسية، التي تزكّي مرشحين لا يلتزمون بمهامهم التشريعية، كما يفتح النقاش حول فعالية النظام الداخلي لمجلس النواب، الذي ينص في مادته 395 على إلزامية الحضور، وعلى سلسلة من الإجراءات التأديبية، كالتنبيه المكتوب، والتوبيخ العلني، والاقتطاع من التعويضات الشهرية، مع النشر الرسمي لهذه العقوبات. لكن ضعف تطبيق هذه التدابير يجعلها، في نظر كثيرين، مجرد نصوص شكلية بلا أثر رادع.
الخطورة لا تكمن فقط في الأرقام، بل في ما تعكسه سياسياً. فكل جلسة تُمرر فيها القوانين في غياب الأغلبية الساحقة من النواب، تمثل ضربة لمفهوم “الشرعية التمثيلية”. فالنائب، بحكم موقعه، ليس موظفاً عادياً، بل مفوّض شعبي. وغيابه المتكرر يعني عملياً تخلي المؤسسة عن وظيفتها الرقابية والتشريعية، مما يزيد من التباعد بين المواطن ومراكز القرار.
في هذا السياق، لم يعد الرأي العام غافلاً عن هذه التجاوزات. فالشاشات المفتوحة، والمنصات الرقمية، تنقل الصورة كما هي: مقاعد فارغة، ونقاشات محدودة، وقوانين تمر بأقلية عددية، ما يعمّق الشعور العام بعدم الثقة في المؤسسات المنتخبة.
إذا كانت الديمقراطية التمثيلية تقوم على توازن بين المسؤولية والمحاسبة، فإن استمرار غياب النواب عن جلسات حاسمة يضرب هذا التوازن في الصميم. المطلوب اليوم ليس فقط مراجعة العقوبات التأديبية، بل إعادة هيكلة العلاقة بين الأحزاب وممثليها داخل البرلمان، وتطوير آليات الرقابة الشعبية، حتى لا تتحول الجلسات التشريعية إلى مجرد طقوس شكلية خالية من المضمون السياسي.
ففي لحظة إقليمية ودولية تتسم بتحديات كبرى على مستوى الحقوق والحريات، يصبح من غير المقبول أن يغيب صوت المؤسسة التي يفترض أن تكون الحارس الأول للقانون وضامنة لعدالة التشريع.