تواجه السياسات الحكومية المغربية تحديات كبيرة في ملف التشغيل، حيث يظهر جليًا أن الإنجازات الاقتصادية التي تحققها البلاد لم تترجم إلى فرص عمل كافية تلبي احتياجات السوق. ورغم الاستثمارات الضخمة التي ضُخت في قطاعات صناعية واستراتيجية مثل صناعة السيارات والطاقة المتجددة، فإن سوق الشغل يعاني من ركود مزمن، ما يثير تساؤلات جدية حول مدى نجاعة هذه الاختيارات الاقتصادية في حل أزمة البطالة.
في السنوات الأخيرة، شهد المغرب نموًا اقتصاديًا ثابتًا، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ، لكن هذا التحسن لم ينعكس على خلق فرص العمل، إذ لا تزال نسبة العاطلين عن العمل مرتفعة، خاصة في صفوف الشباب وحاملي الشهادات العليا. السبب الرئيسي يكمن في كون أغلب الاستثمارات موجهة نحو قطاعات تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا الحديثة، ما يقلل الحاجة إلى اليد العاملة البشرية. هذا التوجه الاقتصادي، رغم أهميته في تعزيز الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية، إلا أنه لا يساهم بشكل كافٍ في حل معضلة التشغيل.
من بين أبرز الإشكاليات التي تعرقل سوق العمل المغربي، نجد الفجوة العميقة بين التكوين وسوق الشغل. آلاف الخريجين يلتحقون سنويًا بسوق العمل، لكن نسبة كبيرة منهم يجدون أنفسهم في مواجهة واقع لا ينسجم مع تكوينهم الأكاديمي. القطاع الخاص، الذي يمثل المشغل الرئيسي، لا يجد فيهم الكفاءات التي يحتاجها، مما يخلق حلقة مفرغة من البطالة والتكوين غير الملائم. بدلًا من تقديم حلول جذرية، لا تزال الحكومة تكتفي بمبادرات سطحية غير قادرة على حل هذه المعضلة العميقة.
الاقتصاد غير المهيكل هو أحد أبرز الإشكاليات التي تعمّق أزمة التشغيل. تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من نصف القوى العاملة في المغرب تشتغل في هذا القطاع الذي يفتقد إلى الحماية الاجتماعية، مما يضعف فرص تطوير سوق شغل مستدام. ورغم وعود الحكومة بدمج الاقتصاد غير المهيكل ضمن الاقتصاد الرسمي، إلا أن الإجراءات المتخذة تبقى قاصرة وغير جاذبة للعاملين فيه، نظرًا لتعقيد المساطر الإدارية والعبء الضريبي الذي يواجهه أرباب العمل الصغار.
التفاوتات الجغرافية تضيف بُعدًا آخر للأزمة. الاستثمارات الكبرى تتركز في محور طنجة-الدار البيضاء، بينما تعاني المناطق القروية من تراجع حاد في فرص التشغيل، ما يدفع الشباب إلى النزوح نحو المدن أو البحث عن فرص للهجرة خارج البلاد. هذا التفاوت يخلق اختلالًا اجتماعيًا يهدد الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد، حيث لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة دون توزيع عادل للفرص بين مختلف الجهات.
ورغم أن الحكومة أطلقت عدة برامج لدعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، إلا أن هذه المبادرات لم تحقق النتائج المرجوة. التمويل يظل عائقًا كبيرًا، حيث يواجه رواد الأعمال الشباب صعوبات في الحصول على القروض، إضافة إلى التعقيدات الإدارية التي تجعل من تأسيس المشاريع الصغيرة مغامرة محفوفة بالعراقيل.
أمام هذه التحديات، تبقى السياسات الحكومية في مجال التشغيل عاجزة عن تقديم حلول جذرية. المطلوب اليوم هو إعادة هيكلة السياسات الاقتصادية بما يضمن خلق فرص عمل حقيقية، وذلك عبر دعم القطاعات التي تعتمد على يد عاملة كثيفة مثل الصناعات التحويلية والخدمات الرقمية، وإصلاح التعليم والتكوين المهني ليواكب احتياجات السوق، وتحفيز الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال إجراءات ملموسة تسهل عليها النمو والتوسع.
في ظل غياب رؤية متكاملة، تبقى أزمة التشغيل في المغرب قائمة، ولا يبدو أن المبادرات الحالية قادرة على تغيير الواقع. التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، بل في ضمان أن ينعكس هذا النمو على جودة حياة المواطنين عبر خلق فرص عمل مستدامة تضمن الكرامة والاستقرار الاجتماعي.