الحدث بريس ـ عبد الفتاح مصطفى
نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز ولو بسيط يقربنا من نساء مدينة الرشيدية، ساهمن في صناعة الوعي والمسؤولية بالمجتمع الراشدي، خاصة اللواتي خصصن وقتا كبيرا من حياتهن اليومية لمدة طويلة كانت حاسمة للبصم بأيدهن و بعقلهن الفتاق لإنقاذ طفولة مهملة و ملقاة في “المزابل” و أمام أبواب منازل و حتى أمام أبواب مساجد … وكذا نساء عازبات فرض عليهن “الزمن” القاسي والغرور بهن للسقوط في المحرمات.
على هذا المنوال سأقرب القارئ من الذات الراشيدية، من سيدة فضلت الصمت و الإشتغال بهدوء و رزينة منذ أكثر من ثلاثين سنة، في مجال قيل عنه أنذاك أنه من الطابوهات التي يستحيل التحدث فيه أو المغامرة في طياته في مجتمع تقليدي محافظ حتى النخاع، امرأة عاشت هذه المدة وهي ممرضة مجازة بمستشفى مولاي اعلي الشريف بالرشيدية لتخدم الطفل المتخلى عنه المعوز الضعيف …ويالها من رسالة نبيلة حقا، ولكنها مفعمة بالألم و نكران الذات بشكل لا يقدر على انسان عادي على فهم معانيه و مقاصديه.
السيدة الفاضلة التي فضلت الإشتغال في صمت و نكران ذات هي السيدة لياماني عزيزة، أو ماما حاجة كما يناديها العشرات من الأطفال المتخلى عنهم، لا يهمنا في شخصيتها ذلك المجهود الجبار التي قامت و تقوم به تجاه الأطفال المهملين، بل يهمنا أكثر هو سعة صدرها و رحابة نفسها وحنانها المتزايد و الذي لا يكل أبدا، حيث أنها باشر ملفا غارقا في الطابوهات و المحرمات، لتهتم و تنتشل أطفال مهملين محرومين من الوالدين، و الوصول بهم إلى أعلى مراتب الإهتمام لتوفر لهم كل متطلبات العيش الكريم وهي متسلحة بإلحاحية شديدة منذ الوهلة الأولى من تطوعها وبعزيمة قوية لبلوغ الهدف وعدم التردد في طرق الأبواب للحصول على المتطلبات اليومية لدار الأطفال المتخلى عنهم .
متطوعة فور تعيينها بالمستشفى الاقليمي بالرشيدية
تحكي السيدة اليماني عزيزة بعد تقاعدها من وظيفتها الأساسية كمساعدة اجتماعية اقليمية و ممرضة مجازة مختصة في تقويم النطق السليم بمستشفى مولاي اعلي الشريف بالرشيدية ،عندما أخذت تتحدث عن دواعي احتضانها و احتواءها لأطفال متخلى عنهم مند سنة 1986 الى اليوم.
السيدة عزيزة تضيف في حوارها مع جريدة “الحدث بريس ” : أن أطفال متخلى عنهم كان المستشفى يستقبلهم بجناح طب الأطفال بالمستشفى الجهوي بالرشيدية، ليتقاسمو الأسرة البيضاء مع الأطفال المرضى بكل ما تحتويه الكلمة من مشاكل صحية ونفسية، خاصة وأن في ثمانينية القرن الماضي كان يخيم على اطفال المنطقة سوء في التغذية وانتشار أمراض تؤثر على نموهم نموا سليما ( مرض السحايا و مرض الكزاز و مرض الدفتيريا وأمراض أخرى صحية…)، كل هذا في غياب تام لأطباء مختصين في الميدان في تلك الحقبة.
ولما بدأ عددهم يتكاثر بالمستشفى، أصبح وجودهم غير مرغوب فيه تحكي السيدة “عزيزة “، لأسباب متعددة من بينها عدم معرفة إدارة المستشفى، متى يغادرون، علما أنها تعلم وقت دخولهم، الشيء الذي يؤثر على المؤشرات المبيانية للمستشفى : عدد الولادات، عدد الوفيات، أيام الإستشفاء … خاصة وأن مهام المستشفى محصورة في الإستقبال والتوجيه و التطبيب …، وأن هؤلاء الأطفال لا يشكون من أي علة، الشيء الذي كان يدفع بالعاملين في الشأن الصحي، على أنهم يرون فيهم إرث غير مرغوب فيه وهو الرأي الذي تشاطرهم فيه السيدة( لياماني ع. )، لأن المشكل اجتماعي محض، ويجب أن يتقاسمه الجميع للتغلب عليه، خاصة و الكل يتساءل لماذا هذا الحرمان ؟؟؟؟؟ وهم الذين يؤدون ضرائب لم يقترفوا اثمها ليلقبوا طول حياتهم و بوشم حزين وعميق “بالأطفال المتخلى عنهم”.
قوانين المستشفى ترغم الأطفال المتخلى عنهم مغادرته
كان لوجود هؤلاء الأطفال بجوار أطفال مرضى بقسم طب الأطفال، يؤرق مسؤولي المستشفى، لنظرتهم لهم الغير مشرفة للمؤسسة الصحية، حيث كان هذا المشكل في القرن الماضي من بين” الطابوهات” التي يستحيل ذكرها و مداولتها بين الأسر خاصة وأن المنطقة كانت جد محافظة، ووضع كهذا، فرض مغادرتهم المستشفى إلى مقر يجاور هذا الأخير بعد تهيئته من طرف محسن من مكناس التحق بجوار ربه، ليتغير الوضع من عمل ارتجالي فردي الى عمل جمعوي منظم برئاسة السيدة المؤسسة لجمعية “الحنان” التي كان من بين أعضائها طبيب، محامي وأطر شبه طبية…، ورغم ذلك، أخذ المستشفى على عاتقه اطعام، تطبيب، كهرباء وماء المقر الجديد …ورغم خروجهم، ظلوا تحت رعاية المستشفى بحكم القرب.
ولم يفت السيدة الرئيسة ( ليماني ع.) وهي تحكي مسارها الطويل مع الطفل المهمل الذي انخرطت فيه وحملته على عاتقها بكل تفان و اخلاص منذ 1986 الى اليوم، مضيفة بأن هاته الشريحة من الأطفال، تحتاج لكل شيئ، لأنها لا تملك أي شيئ، بل هي في حاجة لكل شيء حسب السيدة الرئيسة : هم في حاجة لضمة حنان، للمسة حب، لبسمة شغف، وفي حاجة لتربية ورعاية، وقبل هذا و ذاك هم في حاجة لإكتساب اسم و الحصول على هوية …
أنشطة الجمعية في مقرها المحدث بعد مغادرتها المستشفى
بعد استقرار الأطفال في مقرهم المستقل عن المستشفى الإقليمي مولاي اعلي الشريف، عملت الجمعية على تجديد مكتبها، وتغيير اسمها بعدما كان يطلق عليها جمعية “الحنان” سنة 1986، أصبحت تسمى جمعية ” الأمل” للأطفال المتخلى عنهم، وهكذا استطاع المكتب الجديد الذي جدد الثقة في الرئيسة المؤسسة للجمعية، أن يخلق أنشطة منظمة، خلاف ما كان في السابق الشيء الذي أدى بأعضاء الجمعية إلى ربط شراكات وطرق أبواب بهدف تحسين وضعية الأطفال، والرفع من معنويات المربيات، ما دفع بأعضاء الجمعية إلى إقامة حفل تكريم بمناسبة مرور أزيد من ربع قرن على تأسيس الجمعية في شهر مارس 2016، الذي انخرطت فيها عدة أطر لها أيادي بيضاء في العمل الجمعوي وكذا كل المربيات، وتوج الحفل بختان طفلين من الجمعية.
الوضع الجديد للأطفال المتخلى عنهم
شريحة الأطفال المتخلي عنهم بالرشيدية لهم كسائر الأطفال متطلبات يومية و احتياجات أنية على مدار الأربع والعشرين ساعة، الشيء الذي حتم العمل بالمداومة على مدار الساعة، من طرف مربيات تطوعن في البداية لخدمة هذه الشريحة من الأطفال حيث بذلن كل الجهد للسهر على إسعادهم، رغم أن الحنان الأبوي يستحيل التعويض.
ولمواجهة المتطلبات المتزايدة، عمدت السيدة رئيسة الجمعية ” لياماني ع. ” وسائر أفراد الجمعية في نسختها الجديدة، إلى الشمر على السواعد، حيث أصبح، شغلهم الشاغل هو التكفل الشامل بأطفال الجمعية في جميع الميادين مند ولوجهم مقر الجمعية حتى التكفل بهم بنص قانوني ، رغم أن الجمعية، لم يكن لها مورد قار و لا منحة يعول عليها سوى مجهودات الأعضاء وعطاءات المحسنين و المتعاطفين وخدمات المستشفى و أطره .
وفي هذا السياق تحكي السيدة” لياماتي” أنه في ربيع 2013، رن الهاتف من عمالة الإقليم ليخبرها مسؤول بالتوجه الى دار الطفل فورا، فوجدت مستشارة الملك زليخة نصري رحمة الله عليها تنتظرها : فدخلنا إلى الدار تقول السيدة لياماني، وبدأت تراقب و تنظر وتستفسرعن مكونات الدار وحاجياتها وتداعب الأطفال، فأخبرتني بعدها بأن جلالة الملك سيشرفنا باستقباله، فحظينا بذلك تضيف السيدة الرئيسة، وعتد استقبالنا، استفسر جلالته حفظه الله قائلا : من أين يأتيكم التمويل ؟ أجبته الرئيسة بتلهف و بسرعة : نعم أسيدي أ سيدي أسيدي أأأأمن المحسنين والله يرزقهم من حيث لا نحتسب …. بعدها تم أخذ معلومات عن الجمعية و هاتف الرئيسة … لتتوج الزيارة الملكية الميمونة الخالدة، بمنح رئيسة الجمعية هبة ملكية سامية اعترافا لها بمجهوداتها، عوضت لهم الخصاص الذي مروا به منذ تأسيس الجمعية سنة 1986 .
وما أثلج صدر السيدة الرئيسة بعد هذه الإلتفاتة القيمة تقول الرئيسة : هو الرداء والعطف الأبوي الذي أسدله عاهل البلاد على هاته الشريحة من الأطفال الذين هم ضحية المجتمع بل هم أعوز من اليتامى، لأن اليتيم تبقى له صلة مع أهله، في حين هؤلاء لا أهل لهم ولا عائلة …وكما ذكرنا سالفا بأن الله يرزقهم من حيث لا نحتسب، ها هو جلالته قد بنى لهم مقرا رفيعا يتوفر على جميع شروط الإيواء و الإستقرار و العيش الكريم.
ما تفتخر به جمعية” الأمل” للأطفال المتخلى عنهم اليوم، هي تلك المجهودات المبذولة من جميع أعضاء الجمعية و مختلف الشركاء، حيث أنها وخلال أكثر من ثلاثة عقود استطاعت أن تحصي من بين نزلائها خريجين من معاهد عليا … وربات بيوت صالحات، إضافة ‘لى عدد منهم كانوا قد غادروا الوطن في نطاق كفالة مغاربة الخارج.