بات العالم الافتراضي جزء من الحياة اليومية، ودوره الحيوي توسع مع ظهور كورونا، بعد أن أصبح تنظيم أنشطة أو لقاءات على اختلاف طبيعتها غير متاح، لا في فضاءات مغلقة ولا مفتوحة، حتى وإن التأمت، تتم وفق شروط مشددة، ما أفرز واقعا جديدا.
وقطاع الثقافة ، مثل باقي القطاعات الأخرى، وجد في العالم الافتراضي وتقنياته، وصفة ناجعة لا محيد عنها، وخيارا مده بجرعة أمل للحياة، ليواصل دوره الانساني التنويري والمؤثر، لكن بشكل مختلف، بعد أن كادت كورونا أن تشل هذا الدور والعلاقة بين صناع الثقافة والفن والمتلقي، بسبب الموانع والأبواب الموصدة، والدخول في دوامة البحث عن مخرج لتداعيات الجائحة التي انعكست سلبا على الابداع.
هذه الطفرة الافتراضية، منحت الفرصة لهيئات وجمعيات ومؤسسات ثقافية …، للاستمرار في الإنتاج ، والقيام بالتالي برسالتها والمهام التي وجدت من أجلها ، بعد أن كان الفضاء الافتراضي، بالأمس القريب، مصدر قلق، لدى القائمين على الشأن الثقافي، لطالما اعتبروه سببا من الأسباب، الكامنة وراء غياب الجمهور عن الأنشطة الثقافية والفنية، باستدراجه لخيارات في عالم مفتوح، لا ضفاف تحده ولا ضوابط.
من المؤكد أن ظهور كورونا، وسع المسافة الفاصلة بين الجمهور، والمسارح وقاعات السينما، وفضاءات الأمسيات الفنية والشعرية وكل فعل ثقافي عموما، قلصها نسبيا التواصل عن بعد، رغم أن هذا الحل حول العلاقات الانسانية، إلى علاقات افتراضية، فمصطلح ”عن بعد ” ، الذي أصبح القاعدة، يعني الاستغناء عن التقارب والجلوس جنبا إلى جنب.
ومؤسسة الحي الثقافي ” كتارا ” في قطر، واحدة من المؤسسات التي اعتمدت على الوسائط الرقمية لتنفيذ مشاريعها ، بعد إعادة صياغة البرامج، وتقديمها في شكل يتناسب مع متطلبات الاتصال الافتراضي.
وراهنت المؤسسة ، منذ بداية الأزمة، على هذه البيئة التفاعلية، فراكمت تجربة دشنت على أسسها علاقة جديدة مع الجمهور، الذي باستجابته تجاوز عدديا كل التوقعات. ففي أب الفنون، على سبيل المثال لا الحصر، قدمت المؤسسة أكثر من 12 عملا عالميا وعربيا، خلال الصيف الماضي، على منصاتها الافتراضية، بمعدل عمل مسرحي واحد في الاسبوع، وابتكرت طريقة للعروض، عبر تصوير دور كل ممثل على حدة فوق خشبة مسرحها بالحي، وتركيب المشاهد، وبالتالي تقديم عرض متكامل للجمهور.
وعبر الافتراضي، تمكنت المؤسسة من الوفاء بمواعيدها، خاصة مسابقاتها السنوية، في الرواية، والقصة القصيرة، والشعر العربي، وفي البحث، وفي تلاوة القرآن الكريم، وغيرها من المسابقات على المستويين العربي والدولي.
وبنفس الشغف في تنشيط المشهد الثقافي والفني، أقامت المؤسسة، عددا هاما من المعارض الافتراضية، شارك فيها نخبة من الفنانين التشكيليين القطريين والأجانب، أتاحت لعشاق هذا الفن السفر بين لوحات وإبداعات الفنانين، التي لقيت تفاعلا كبيرا من الجمهور داخل قطر وخارجها.
وحول هذه التجربة، أوضح سالم المري، مدير العلاقات العامة بالحي الثقافي “كتارا”، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أنه اعتبارا للدور الثقافي الذي تضطلع به المؤسسة في قطر، كان لابد من وضع خطط تتلاءم مع طبيعة هذه المرحلة الحرجة، والالتزام التام بإجراءات السلامة والوقاية.
من جهة أخرى، كان على “كتارا”، يضيف المري، أن تواصل دورها الثقافي والتوعوي، فأطلقت، مجموعة من الفعاليات المتنوعة في مضامينها، ثقافية وفنية، وأدبية وأيضا رياضية، ولجأت، من أجل ذلك، إلى منصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي كحل بديل.
وقال المري، حول ما إذا كان ،التواصل عن بعد، قد حقق الأهداف المرجوة منه، إن الاعتماد عليه استقطب متابعين بأعداد هامة من داخل قطر وأيضا خارجها وهو أمر في غاية الأهمية، مذكرا بالمعارض الافتراضية التي نظمت على امتداد الأشهر الماضية، والتي ” سجلت، وفق إحصائيات موقع كتارا الإلكتروني، عدد زيارات غير متوقع ” .
ومن أبرز التحديات التي واجهت المؤسسة، في البداية للإبقاء على نشاطها، يقول المري، الالتزام بأقصى الشروط الوقائية في كل فعالية، بما يحفظ سلامة الجميع، عبر توزيع الأنشطة على مساحات متباعدة، وتعقيم أماكن الفعاليات من حين لآخر، مضيفا أن الأمر تطلب جهدا مضاعفا، فتمكنت المؤسسة، رفع هذه التحديات، وإنجاز جميع برامجها في العالم الافتراضي.
وأضاف أنه رغم رفع القيود بشكل تدريجي على حضور الجمهور لبعض الأنشطة ، لم تستغن “كتارا” عن تقنية التواصل عن بعد معتبرا أن هناك بعض الفعاليات التي تتطلب تواجد جمهور فعلي، خاصة الأمسيات الموسيقية، وهو ما لا يمكن تحقيقية عن بعد بالشكل المطلوب.
إن هذا التحول، قد يكون مرحليا، لكنه فرض نفسه، وغير العديد من السلوكيات والعادات في التعامل مع المنتوج الثقافي الذي في غالبيته يحتاج إلى تفاعل جماعي، وليس فرد ، دون إغفال التباين في درجة استيعاب كل ما هو افتراضي بين أفراد المجتمع الواحد.
فالعالم الافتراضي مكن من تكسير الجمود وفتح النقاش، والتواصل بين سكان العالم، الذي أصبح يعكس المفهوم الفعلي للقرية الصغيرة ، للتفكير الجماعي في سبل احتواء هذه الأزمات الطارئة في كل القطاعات ، فكان من ضمن ما تم التوصل إليه، التعليم عن بعد، والعمل عن بعد، ومؤتمرات دولية عن بعد، والمحادثات السياسية والاقتصادية بين القادة عن بعد.
تقنية، التواصل عن بعد، وإن كانت تعبر عن نفسها، أي التباعد الاجتماعي، والتقليص من التواصل الانساني المباشر، فقد أكدت نجاعتها على الأقل في تدبير الأزمة التي يعيشها العالم.