كشف تقرير لمجلة “جون أفريك” الفرنسية عن تحول لافت في مسار السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر، كزافييه دريانكور، الذي يبدو أنه وجد في تقاعده مساحة ليتحول إلى مُنظّر و مُلهِم لليمين الفرنسي، بما في ذلك اليمين المتطرف، في مقاربة العلاقات المعقدة للغاية بين باريس و الجزائر.
فقد حظي دريانكور بتجربة دبلوماسية فريدة في الجزائر، حيث عمل سفيرا لبلاده مرتين (2008-2012 و 2017-2020)، و هو ما منحه فهما دقيقا لدهاليز النظام الجزائري و قادته و المؤسسة العسكرية، و الآليات العميقة التي تحكم العلاقة بين البلدين.
و بفضل هذه الخبرة المزدوجة، أصبح دريانكور اليوم مرجعا يُستمع إليه على شاشات التلفزيون و الإذاعات و في أعمدة الصحف و المؤتمرات، خاصة من قبل طيف سياسي يميني واسع يمتد من إدوارد فيليب إلى مارين لوبان، مرورا بشخصيات وازنة مثل إريك سيوتي و غابرييل أتال و برونو ريطايو.
هذا النفوذ الجديد دفع وزير الخارجية الفرنسي الحالي، جان–نويل باروت، ليصرح في 6 ماي الماضي على إذاعة RTL بأن “كزافييه دريانكور لم يعد دبلوماسيا“، بل “إنه اليوم المتحدث بإسم اليمين المتطرف“.
و رغم أن دريانكور ينفي رسميا أي توافق أو صلات باليمين المتطرف، إلا أن تصريحاته المتكررة حول الجزائر، والتي تخلّى فيها عن واجب التحفظ الذي يقيد زملاءه عادة، تثير إستياء صريحا في قصر الإليزيه و وزارة الخارجية الفرنسية.
و لا يقف الإستياء الرسمي عند حد تصنيف دريانكور كمتحدث لليمين المتطرف، بل يتعداه إلى التساؤل عن السر وراء تحول الدبلوماسي الرصين و المعتدل الذي عرفه زملاؤه إلى داعية لسياسة “شدة قصوى” تجاه الجزائر، و لو وصل الأمر إلى القطيعة التامة.
صحيح أن رؤية و فكر كزافييه دريانكور حول الجزائر عرفا تطورا لافتا خلال السنوات الخمس الأخيرة، لا سيما بعد تقاعده الرسمي في عام 2022 و إصداره كتاب مذكراته الأول بعنوان “اللغز الجزائري. وقائع سفارة في الجزائر العاصمة“. في هذا العمل، تناول دريانكور غموض النظام الجزائري و علاقته بالتاريخ الإستعماري و ملف التأشيرات بنظرة حكيمة و صريحة، لكنها لم تخلُ من القسوة. و مع ذلك، اختتم الكتاب بجملة بدت و كأنها نذير للتحول القادم : “الجزائريون لا يفهمون إلا ميزان القوى.”
بعد ثلاث سنوات، و تحديدا في أبريل 2025، صدر كتابه الجديد بعنوان “فرنسا–الجزائر، العمى المزدوج، شبكات، هجرة، دبلوماسية : من يمسك بمن؟“. هذه المرة، تبدو النبرة مختلفة تماما و أكثر حدة. لم يعد الكتاب مجرد مذكرات أو تحليل، بل هو أقرب إلى دليل عمل يحدد الخطوات الضرورية لإعادة بناء العلاقة الجزائرية الفرنسية بالقوة و الحزم، حتى لو عنى ذلك الوصول إلى القطيعة التي يتمنى أقطاب اليمين المتطرف حصولها.
في هذا الكتاب الثاني، بعد رصده لما يسميه “إزدواجية السلطة الجزائرية و العمى الفرنسي تجاه السلطة العسكرية“، يسرد دريانكور مجموعة من المقومات الضرورية لإعادة هيكلة شاملة للعلاقة التي يصفها بـ “السامة“.
و تتضمن هذه المقترحات إجراءات “راديكالية” مصممة على المديين الفوري و الطويل، و التي يبدو أنها تلقى ترحيبا كبيرا في صفوف اليمين و المتطرفين في فرنسا.
من أبرز هذه المقترحات خفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف، مقارنة بالعدد الحالي الذي يقل عن 250 ألفا، دون الإكتراث للإحتجاجات الجزائرية. و يقترح أن يصاحب هذا الإجراء تعديل لإتفاقية شنغن لمنع الجزائريين من دخول فرنسا بتأشيرة صادرة عن قنصلية دولة أوروبية أخرى.
و لا تتوقف مقترحات دريانكور عند هذا الحد، فهو يوصي بالتعامل بحزم مع رفض السلطات الجزائرية إستقبال بعض مواطنيها المعنيين بقرارات الإبعاد من فرنسا، و ذلك بإتخاذ إجراءات، لم يفصلها، ضد شركة الخطوط الجوية الجزائرية الوطنية. هذا الإقتراح وُصف بأنه “راديكالي” لدرجة أنه لم يسبق لأي مسؤول فرنسي، سواء كان في الخدمة أو متقاعدا، أن تجرأ على طرحه علنا، حتى من قبل شخصيات معروفة بآرائها المتشددة تجاه الجزائر مثل مارين لوبان أو سارة كنافو.
و في سياق تشديد القيود على الحركة، يقترح دريانكور أيضا إلغاء إتفاقية عام 2007 التي تعفي حاملي الجوازات الدبلوماسية و الخدمية الجزائريين من التأشيرة، و هو إجراء سارعت باريس بالفعل لتطبيقه في مايو الماضي، مما فاقم الأزمة بين العاصمتين.
و من بين الإجراءات الأخرى التي يدعو دريانكور إلى إتخاذها لفرض “ميزان قوى” مع الجزائر، يقترح إغلاق عدد كبير من القنصليات الجزائرية الـ18 الموجودة في فرنسا.
هذا الإجراء، إذا ما طُبق، سيسبب صعوبات لوجستية و إدارية هائلة للجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، و التي تُقدر بنحو 2.7 مليون شخص. كما يدعو فرنسا إلى إستخدام نفوذها على المستوى الأوروبي لعرقلة مراجعة اتفاقية الشراكة الموقعة عام 2002 بين الجزائر و الإتحاد الأوروبي، و رفض تسجيل أبناء النخبة الحاكمة (نومينكلاتورا) في الثانوية الفرنسية المرموقة “ألكسندر دوما” في الجزائر العاصمة، و بالتالي حرمانهم من فرصة متابعة دراساتهم العليا في المدارس و الجامعات الفرنسية.