الحدث بريس:متابعة-بتصرف
حدث ذات يوم أن قرأ الصديقي مصادفة في إحدى الجرائد المغربية إعلانا لتدريب على الفنون المسرحية، ومنذ تلك اللحظة، كتب كلمته الأولى في كتاب حياة انتهى بـ”أبو المسرح المغربي” عنوانا له.
حين بدأ يختط مسارا لحياته، لم يكن يعلم أن الحياة تخبئ له مسارا لم يحدث أن فكر فيه قط… نعم، قد يحدث أن يغير إعلان في جريدة حياتك رأسا على عقب!
سيغيرها، ومن يدري؟ قد ينتهي بك إلى قمة مجال ما… كما حدث لبطل هذا البورتريه، الذي أصبح في نهاية المطاف: “عميد المسرح المغربي”.
تلك هي الحكاية التي نتعرف عليها في هذا البورتريه، الذي نتذكر فيه واحدا من مؤسسي المسرح المغربي… الطيب الصديقي!
رأى الطيب الصديقي النور عام 1937 بمدينة الصويرة… كان أبوه أحد فقهاء المدينة وعلمائها، فنشأ بذلك في بيت علم، لكنه لن يمكث طويلا بمدينة الفن والفنانين كما يصفها…
درس بها المرحلة الابتدائية ثم حملها معه في صحو عينيه، إلى مدينة الدار البيضاء، حيث ستستقر الأسرة نهائيا… وحيث سيحصل على شهادته الثانوية.
حين بلغ من العمر 16 عاما، لاحظ مسؤولون فرنسيون في الثانوية التي درس بها نبوغه، فعرضوا عليه السفر إلى فرنسا… وافق، ثم قضى هناك 3 سنوات يدرس ليتخرج بدبلوم يخول له العمل في اللاسلكي بالبريد.
كان بود الصديقي أن يتمم دراسته، بيد أن نصيحة لوالده ستغير حياته إلى الأبد…
حين عاد إلى المغرب، نصحه الوالد بالتوقف عن الدراسة، لمدة عام، يلتقط فيها أنفاسه كما ليثقف فيها نفسه أكثر…
“وهب الطيب الصديقي حياته بأدنى تفاصيلها للمسرح، حتى لا تكاد تجد خيطا فاصلا بين حياته الخاصة وعمله المسرحي.”
ثم حدث ذات يوم خلال ذلك العام، أن قرأ الصديقي مصادفة في إحدى الجرائد المغربية إعلانا لتدريب على الفنون المسرحية، من بينها فن الهندسة المسرحية.
وكأنما دفعته قوة خفية إلى ذلك. لم تكن لديه إطلاقا فكرة حيال هذا الفن… ارتمى في مغامرته، وكان التدريب الأول من تنظيم الشبيبة والرياضة عام 1954، حيث التقى بأسماء وازنة في تاريخ المسرح المغربي، مثل أحمد الطيب العلج ومحمد عفيفي.
لم يكن بين زملاء الصديقي من يتقن اللغتين العربية والفرنسية سواه. هكذا، اختاره أستاذهم الفرنسي “أندري فوازان”، ليترجم بعض الدروس النظرية في المسرح.
بالموازاة، وفي أول تدريب لفن الدراما، أسند للصديقي دور ثانوي في إحدى المسرحيات… ثم حدث أن تخلى المشخص العربي الدغمي، عن الدور الأول (جحا) بسبب المرض، فأسند الدور الأول… للصديقي!
انبهرت الصحافة الفرنسية بالصديقي ونوهت به حين عرضت مسرحية “عمايل جحا”، في مهرجان بباريس؛ ثم كان أن اختاره المسرحي الفرنسي الشهير هوبير جينيو كأحسن ممثل، فحفه برعايته وأتاح له دراسة تقنيات المسرح في مركز يشرف عليه بفرنسا.
هكذا، من يطالع سيرة الصديقي، سيلاحظ أن يدا ما خفية كانت تعبد طريقه في بداياته ليصبح في النهاية: “أبا المسرح المغربي”.
الطيب الصديقي، بعد ذلك، وهب حياته بأدنى تفاصيلها للمسرح، حتى لا تكاد تجد خيطا فاصلا بين حياته الخاصة وعمله المسرحي.
كتب الصديقي طيلة حياته أكثر من 30 نصا مسرحيا، كما ترجم أو اقتبس أكثر من 30 عملا دراميا، ناهيك عن إخراجه لعدد من الأعمال، سواء مسرحية أو سينمائية أو وثائقية، كما مثل في عدد الأفلام العالمية أبرزها “الرسالة”.
حين عاد إلى المغرب، عام 1957، بدأ الصديقي تجربته المسرحية مشخصا في “فرقة التمثيل المغربي”، ثم طلبت منه نقابة “الاتحاد المغربي للشغل” تكوين فرقة “المسرح العمالي”، التي قدم فيها عددا من المسرحيات، أولاها “الوارث”.
عام 1960، طلب منه مدير المسرح البلدي بالدار البيضاء، الفرنسي روجي سيليسي، إنشاء فرقة تتخذ من المسرح مقرا لها… فولدت “فرقة المسرح البلدي” الشهيرة، التي قدمت عددا من المسرحيات، مثل “الحسناء”، و”مولاة الفندق”.
وضع الصديقي حدا له في هذه الفرقة عام 1962، إذ أنشأ فرقة باسمه، ثم راح يبني صرح “أبي المسرح المغربي”، إذ وقع على أعمال عديدة، سواء اقتباسا من مسرحيات عالمية أو مستلهما إياها من التراث المغربي، العربي والإسلامي.
كتب الصديقي طيلة حياته أكثر من 30 نصا مسرحيا، كما ترجم أو اقتبس أكثر من 30 عملا دراميا، ناهيك عن إخراجه لعدد من الأعمال، سواء مسرحية أو سينمائية أو وثائقية، كما مثل في عدد الأفلام العالمية أبرزها “الرسالة”.
كأي فنان، من بين أعماله ما اشتهر أكثر من غيرها، والقصد هنا موجه نحو أعمال مسرحية مثل “مقامات بديع الزمان الهمداني”، “ديوان سيدي عبد الرحمان المجدوب”، “سلطان الطلبة”، “مولاي إدريس”، “الحراز”…
أوخذ الصديقي من طرف الكثيرين على تطبيعه مع إسرائيل عقب اتفاقية أوسلو؛ إذ زارها وكانت له صداقة وطيدة مع وزير خارجيتها، شمعون بيريز، قبل أن يتخذ قرارا بقطعها، بعدما أبان الأخير عن عدم جديته في دعوته إلى السلام.
بجانب عمله الإبداعي، تولى الصديقي عددا من المناصب، أبرزها اشتغاله لفترة مديرا فنيا لمسرح محمد الخامس بالرباط، وكذا مديرا للمسرح البلدي بالدار البيضاء، كما عين مكلفا بمهمة لدى وزير للسياحة بين عامي 1980 و1982.
نظير إسهاماته للمسرح المغربي، نال الصديقي وسام العرش عام 2008، كما كرم في عدد من المناسبات سواء داخل المغرب أو خارجه.
على صعيد آخر، أوخذ الصديقي من طرف الكثيرين على تطبيعه مع إسرائيل، بداية تسعينيات القرن الذي مضى، عقب اتفاقية أوسلو؛ إذ زارها وكانت له صداقة وطيدة مع وزير خارجيتها، شمعون بيريز، قبل أن يتخذ قرارا بقطعها، بعدما أبان الأخير عن عدم جديته في دعوته إلى السلام.
لكن الصديقي كان في بداية ذلك حَسنَ النية؛ كما يقول في حوار لصحيفة “الشرق الأوسط” عام 2002: “ما زلت أتذكر عندما كنت صغيرا (في الصويرة)، لم نكن نفرق بين العربية والعبرية. كنا نتحدث باللغتين معا، بحكم العدد الكبير لليهود في المدينة. كان التعايش طبيعيا بين المسلمين واليهود والمسيحيين”.
عام 2005، قدم الصديقي آخر أعماله المسرحية: “عزيزي”؛ ثم بدأ المرض ينال منه ويقعده. ثم، عام 2016، في الـ5 من فبراير/شباط، ترجل عن صهوة الحياة، تاركا إرثا مسرحيا يجعله اليوم وفق العديد، من مؤسسي المسرح المغربي، إن لم يكن المؤسس الأول.