يشهد العالم في الآونة الأخيرة مجموعة من المتغيرات التي سرعت من وثيرة بدائل الأولويات والمصالح التي قوضت من أسس النظام الدولي وأدت إلى صعود عدد من القوى الدولية الكبرى، مما أحدث تغييرا على مستوى موازين القوى الدولية والإقليمية.
ولقد عمق من تداعيات هذه المتغيرات الدولية ارتباط نخبها السياسية بالذهنية النفعية المفرطة التي تشكلت عبر التاريخ والتي راكمتها قرون من التجارب السياسية العنيفة التي حكمت المجتمعات، حفاظا على مصالحها الخاصة، وهو ماجعلها اليوم تعيد إنتاج كافة أدوات القمع اللاإنساني في صياغة هذا الفكر الإستبدادي وفرضه بالقوة على العلاقات البين دولية، مما أدى بشكل خطير إلى تنامي الأزمات الدولية وتنامي المخاطر العابرة للحدود.
وعلاقة بموضوعنا، سعى المغرب وعبر مراحل تفرضها التحولات العالمية الجيوسياسية إلى تكييف سياسته الخارجية مع هذه المتغيرات، مع التسجيل بأن تاريخ السياسة الخارجية المغربية يفيد بأن المملكة لاتفضل الدخول في لعبة المحاور، وهو ماجعل المغرب تاريخيا يناصر دول عدم الانحياز. وهي المسألة التي تأكدت عبر حرصه الشديد على التزام سياسة ضبط النفس في معالجة مجموعة من الأزمات التي تضرب مصالحة الحيوية، مما أعطى للمغرب مصداقية على مستوى التعامل مع مجريات مجموعة من الملفات على المستوى الإقليمي والدولي.
وإذا كان اليوم المغرب يتعامل بحدر مع ملف الأزمة الروسية الأوكرانية فهي مسألة يمكن ربطها بالملامح الجديدة للسياسة الرصينة التي راتبت المملكة على التعامل من خلالها لتسوية تواجده الرسمي والسيادي إثر العديد من الأزمات والصدامات الدولية، دون الإنسياق وراء الإستقطابات الثنائية، والتي أخرجت المغرب منتصرا ديبلوماسيا وميدانيا بالرغم من الضغوطات الممارسة عليه – سواء علنا أو من خلال كواليس أروقة الأمم المتحدة ومنضمات الضغط التي تستغل ملف الصحراء دريعة وورقة مرور لتحقيق مصالحها ….- في عالم متغير باستمرار.
وبالتالي فأمام اختلاف القراءات الدولية وأحاديث المقاطعة والإنتقادات بين روسيا وأوكرانيا يبقى المغرب على مسافة أمان قعدت مواقفه السابقة من جهة والتي تتشبث برفض حل النزاعات بالعنف، ترسيخا لسياسته الدبلوماسية المبنية على احترام وحدة الأراضي، والداعية إلى الحوار والتفاوض السلمي وحل الأزمات بعيدا عن لغة القوة والسلاح التي يدفع ثمنها المدنيون والأبرياء. وتأكدت من جهة ثانية على عمق سياسته الرصينة والعقلانية والتي تسطر على أهمية العلاقات الاقتصادية المتينة التي تربط المغرب والطرفين المتنازعين، خصوصا فيما يتعلق باستيراد وتصدير المواد الفلاحية، شأنه شأن مجموعة من الدول العربية، مما يجعل توازن المصالح عاملا حاسما في طرح أي موقف علني من الحرب الحالية.
وبعيدا عن كل القراءات التي يروج لها المعلقون على اختلاف مشاربهم، أجد بأن المغرب يحدو حدو العديد من الدول التي لها دراية بالمتغيرات التي سوف تسفر عليها هذه الحرب، والتي ستكون ولامحالة ذات أبعاد وتحولات جدرية في العلاقات البين الدولية، وأن هذا الصراع الروسي الأوكراني بكل تصوراته الحالية، سيكون اللبنة التي سوف يبنى عليها النظام العالمي الجديد، وبالتالي فالسياسة الإيجابية التي يتبناها المغرب إزاء هذه الأزمة أو مايسمى بالحياد الإيجابي، سيترك له مسافة آمنة تغنيه عن التغلغل في صراع، حاول الغرب بكل قوته تجنبه والإكتفاء بالضغوطات الاقتصادية والبديلة والتي تعد بالفعل بالنسبة لي عبارة عن مسافة أمان من جهة الغرب، كما يعد من جهة ثانية تطبيقا لقوانين الأمم المتحدة ، بالرغم من كل الإستنكار والهجوم السافر التي يتعرض له الشعب الأوكراني، والكارثة اللاإنسانية التي نتجت عنه.
وبالتالي وبخصوص هذه الحرب، نصل إلى تقييم يدلي إلى الخطأ الفادح الذي اقترفته هذه الأخيرة عندما تخلت عن قوتها النووية من أجل ضمان استقلالها وحلمها بالانضمام للمركب الغربي والذي تيقنت اليوم من أكذوبته، وسذاجة انقيادها.
لنخلص أنه ليس بالغريب أن يعمل المغرب في شخص قيادته بالتشبث بموقفه الحيادي، واضعا نصب عينيه المكتسبات الإستراتيجية التي حققها حتى اليوم في قضية وحدته الترابية، وموقفه المتوازن إزاء العديد من الأزمات، والتي أعطت له السبق والتميز القيادي سابقا، والتي سوف تمكنه اليوم من ضمان موقع قدم له في حركية نظام عالمي متجدد ومتعدد الأقطاب.