هذه المقالة تتمة للمقالات الماضية حول نظرية موران عن الحدث السياسي وموضوعاته وأجوائه وتقلباته وتحدياته؛ فالحدث مرتبط بأمرين اثنين، أولهما: التحليل اللحظي، المرتبط بالتقييم الميداني، والمتابعة اليومية، ومحاولة التقاط الخبر المتجدد، وهذه وظيفة المراسلين والمحللين المتقافزين على الأرض من دولة إلى أخرى. ثانيهما: التحليل الرصين الذي لا يتعلق بالتقييم ولا التصويب، وإنما من أجل الفهم والتحليل، مثل تحليل راولز لحرب فيتنام، وكتاب جاك دريدا عن 11 سبتمبر (أيلول). ومن أولئك الرعيل الفيلسوف المعمّر إدغار موران؛ لقد قرأتُ له كثيراً، واستعدتُ تحليلاته عن الحدث السياسي بعد الزلزال الجاثم على صدر المنطقة اليوم.
في كتابه «نحو سياسة حضارية» يقول إدغار موران إنه فصل مقتطف من كتاب نُشِر سنة 1997 تحت عنوان «سياسة الحضارة». وقد تم تأليف هذا الكتاب بمشاركة السيد سامي نايير الذي تقاسم معه تحرير فصول هذا الكتاب. يقول: «هذا النص يمكن فصله عن باقي الفصول، لأنه يناسب نواة من مشاكل قد سبق التفكير فيها بشكل مستقل في إطار مقال. وهو مقال يعالج مشاكل نشعر بها في التجربة اليومية التي تتعلق بمعاشنا الملموس حيث يتعلق الأمر بقصور وعجز حضارتنا، ومن هنا يتعلق الأمر بحاجاتنا وآمالنا، التي لم تعد فقط حاجات مالية. وإجمالاً، يتعلق الأمر بإعادة إحياء الحياة الاجتماعية والحياة السياسية والحياة الفردية بشكل متكامل».
يرى موران طبيعة تشكلٍ لأي بلد للعديد من الحركات الداعية إلى بعث الحياة الاجتماعية، لكنها حركات تظل معزولة ومتفرقة. من هنا جاءت فكرتنا القائلة بأن إعادة إحياء الحياة الاجتماعية والحياة اليومية ينبغي عليها أن تدخل في إطار سياسة، في الوقت ذاته الذي على السياسة أن تدخل في عملية إعادة الإحياء هذه. يضيف: «إننا نرى جيداً كيف أن الإيكولوجيا، التي كانت تبدو خارج السياسة، دخلت، خلال عقدين أو ثلاثة عقود، العالم السياسي، وأنها بدأت تغيّره، وإن كان ذلك بشكل غير كافٍ. وكذلك، فالعديد من المشاكل (مثل القلق والضيق وعدم الرضا)، التي كانت تبدو أنها تعود فقط إلى الحياة الفردية، أصبح من الضروري إدخالها في السياسة، دون أن تتوقف عن كونها مشاكل فردية، لكن بتجنيد أفراد/ مواطنين من أجل معالجتها. إن إضفاء الطابع الحضاري على الجانب المتوحِّش في حضارتنا، هو الطموح الأساسي الذي كانت تطمح إليه الجمهورية والنظام الاشتراكي، إلا أن المشكل أصبح يُطرح بحدود جديدة، لا لأنه اغتنى بتجارب فشل الشيوعية وعيوب الاشتراكية – الديمقراطية فحسب، بل لأنه من الصعب الوعي بمشاكل الحضارة، والأكثر صعوبة هو طرح المشكل بعبارات سياسية».
ويتفق موران مع مجايليه؛ بأنه «من المرهق إعادة طرح البديهيات المسلَّم بها للمناقشة، مثل اليقين الذي يقر بالخاصية الإيجابية لحضارتنا، واليقين الذي يجزم بأن التقدم الحتمي ملازم لنموها. وليس من السهل القيام بتشخيص ملائم؛ إذ من المحتمل أن يكون هذا التشخيص شديد التشاؤم، أو مبالغاً في التفاؤل. بدأت حضارتنا تعي خطر الاختناق الفيزيائي الذي يتهددنا من جراء التقدم التقني – الصناعي، لكن الاختناق النفسي الناجم عن أمراض الحضارة التي تحدثت عنها لا يتم إدراكه إلا بشكل فردي وعلى نحو خاص. ومن شبه المستحيل، عندما نَخضَعُ للفكر التجزيئي والتقسيمي، رؤية الصورة المجملة، أي الحضارية، لمشاكل نتصورها بشكل منفصل».
ويَعدّ أن «كل مشكل سياسي للحضارة ينحل في تصور يختزل السياسي في الاقتصادي. لكن من شبه المستحيل، عندما لا نولي الاهتمام إلا إلى الكفاءة الكمية، أن ندرك أن الامتياز الممنوح للمردود يحطم الطبيعة، ويفسد الأرض والتربة ويغير طبيعة البادية ويفسد الحياة الحضرية. ومن شبه المستحيل أن نتصوّرَ، عندما نقع تحت رحمة بنيات الفكر التبسيطي/ الباتر الذي نعتقد أنه فكر عقلاني، البعدَ المعقَّد للظواهر، أي الطابع الازدواجي للعلم، والتقنية والصناعة، والتَحضُّر، والسوق، والرأسمالية، والدولة، مثلما أنه من شبه المستحيل تصور التفاعلات الارتجاعية، والخاصية التي تكون في الوقت ذاته واحدة ومتعددة ومتناقضة للواقع الجديد. والاضطراب موجود كذلك لدى المفكر الذي يقوم بعملية التشخيص؛ فالصيرورات ذات طابع ازدواجي، وبالتالي ستكون الأحكام والتكهنات غير يقينية».
عن امتلاك الوعي مع عواصف الأحداث وعاتيات الرياح، يقول موران إن البعد المعقَّد للمشكلات، المرتبط بمشكلات صعبة معولمة، يجعل من الصعوبة بمكان امتلاك الوعي. وعدم القدرة على تصور الطابع المعقد لعالمنا يجعل من الصعب التفكير في سياسة ذات طابع معقَّد للحضارة. وهناك أيضاً مشكل الزمان: إننا نعيش في مرحلة تشهد تسارع السيرورات، والسرعة الكبيرة للتطور تساهم في إعاقة وعينا بالواقع: لقد كان هناك دائماً تأخر للوعي على التجربة: وكما قال أرتيغا يي غاسي: «إننا لا نعرف ما يحدث، وهذا بالذات هو ما يحدث». وقال هيغل: «إن طائر المينرفا يحلق دائماً في الغسق». ويزداد التأخر استفحالاً في زمن متسارع. وتخضع سلوكياتنا في الآن نفسه لتشتت يمنع كل تفكير معمق. إننا نتحرك أكثر مما نتصرف، ولا نتمكن من الوعي بالحاضر. ونحن نعاني من مشكل التأخر الحتمي للوعي على المعيش، الذي تعمقه سرعة الأحداث وتعقد الظواهر. وفوق ذلك، لا تسمح مسارات التفكك داخل حضارتنا بإدراك مسارات ممكنة لإعادة التكون. والمجتمعات المعقدة تتطور حسب مسار التفكك/ وإعادة التكون. وكما يقول ألان كايي: «إن الكارثة حاضرة هنا باستمرار، و(…) مع ذلك فإنه يتم إبعادها بدرجات متفاوتة من النجاح». لكن المجرى أصبح شديد السرعة؛ فهل نحن نسير نحو طفرة، أم تغير، أم تقهقر؟
الخلاصة أن موران يعدّ الحدث إجراء اختبارياً للحالة القائمة. إنه يوجّه الذات عن موضوعها، فلا مناص من التفكير في عمق الحدث؛ إذ المفكّر ليس مراسلاً يقيّد أعداد الضحايا، وإنما يضع الواقعة في مختبر التحليل. إنه ليس موجّهاً تربوياً، وإنما يعدّ الحدث فرصة للاطلاع على ما يمكن تجاوزه أو التفكير معه أو ضده، بدليل أن الحركيّة الإسلامية الكبرى تتمدد الآن بطريقة لم يسبق لها مثيل بفضل ركوب موجة الحدث الجديد بغية تجديد فرص الانبعاث الحركي الفاشل الذي أُتيح لها قبل عقدٍ من الزمان، لكن هل من السهل نشر الوعي بما بعد الحدث، أستاذنا موران يقول: «من الصعب ذلك»، فالوعي لا يُنشر على طريقة المواعظ الحسنة، وإنما يكتسب بالتجربة.