كتب الاستاذ الحاج ساسيوي مقالا تحدث فيه عن القاسم الانتخابي و الضمير الانتخابي تناول فيه باختصار شديد حدود العلاقة بينهما ومتطلبات حضور الضمير في العملية الانتخابية ، و إن كان من الممكن وضع عنوان مناسب لما كتبه أستاذنا السي الحاج فيمكن أن يكون ” فصل المقال فيما بين القاسم الانتخابي والضمير الانتخابي من اتصال” وأثناء قراءتي للمقال السالف الذكر تساءلت مع نفسي إن كان هناك فعلا ضمير في الانتخابات ، بل وتجاوز سؤالي ذاك من مدى حضور الضمير في الانتخابات إلى مدى حضور هذا الضمير في مجال أوسع ليشمل مجال السياسة عموما باعتبار أن مجال الانتخابات جزء لا يتجزأ من مجال السياسة وأن العملية الانتخابية لا تعدو أن تكون أداة من أدوات ممارسة العملية السياسية .
لا يهمني كثيرا ما كتب عن القاسم الانتخابي لكونه لا يعدو أن يكون أداة تقنية من بين مجموعة من الأدوات المعتمدة في الأنظمة الانتخابية العالمية لتوزيع المقاعد النيابية بين القوى السياسية المتنافسة في العملية الانتخابية ، ثم إن قرار المحكمة الدستورية الأخير حول القاسم الانتخابي قد حسم الجدل القائم بشأنه، ووضع حدا لكل الاتهامات الموجهة له بخصوص المس بالخيار الديمقراطي من قبل الذين يخشون أن يكون القاسم قاصما لهم . وما يهمني في هذه العجالة هو ما يتعلق بالضمير وقد لفت انتباهي أن يخاطب كاتب المقال ما سماه بالضمير الانتخابي، وكأن الإنسان له أكثر من ضمير ( ضمير انتخابي و ضمير سياسي وآخر مهني وهكذا … ) والحقيقة أن مفهوم الضمير أوسع وأشمل من كل ذلك ، ويمكن التعبير عن هذه العمومية و الشمولية بمفهوم الضمير الإنساني , فالضمير الإنساني هو أساس تميز الإنسان عن الكائنات الأخرى، الضمير إن حضر في المواقف أثبت أن الأخلاق الإنسانية لا تزال بخير وأن صاحب الضمير الحي لا يغريه بريق من بعيد، ولا يخيفه تهديد من قريب ، صاحب الضمير الحي يرفض ارتداء الأقنعة ويرفض بيع ضميره وإذا فعل ذلك فكأنه استغنى عن كيانه البشري، الضمير الإنساني يعني الأخلاق وهي أهم ما يميز شخصية الإنسان، إن سكنت شخصيته مكنته من تمييز الخير من الشر وأرشدته إلى العدل عن الظلم، وبينت له طريق الفضيلة من الرذيلة .
و الأصل في الفطرة الإنسانية أنها سليمة متى حافظ عليها الانسان من التلوث ومتى سما بروحه وقلبه لعالم روحي سليم ومتى ارتقى بفكره لمستوى يليق به . والمؤسف حقا أننا أصبحنا نعيش زمناً غريباً انقلبت فيه الموازين، زمن غاب فيه الضمير واندثرت فيه القيم والأخلا ، فأصبح السكوت عن الخطأ حكمة، وتبرير الفساد والانحراف ذكاء و فطنة …
مما لاشك فيه إذن أن الضمائر طالها الفساد والعفن لدرجة أن البعض لم يعد له كيان يميزه عن غيره، فماذا يرتجى من ضمير أصابه الضعف والوهن ؟ وماذا ينتظر من خير من ضمير فاسد ؟ .
ومن غرائب الأمور أنه ما زال الإنسان يلجأ في بعض الأحيان إلى بعض الممارسات التي يمكن وصفها بالحيوانية، ليس بهدف الحصول على حاجته من الغذاء، بل بهدف الإذلال والتنكيل وإشباع الرغبات السادية لديه كلما أتيحت له فرصة لذلك ، لهذا يمكن القول إن الدين كان أكثر إدراكا لأسرار هذا المخلوق المتميز عن سائر المخلوقات حين أكد على التقوى وسلامة القلب وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة الملك ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وقد أدرك الدين مشكلة الإنسان أكثر من الإنسان نفسه ، ففي حين يحاول هذا الأخير تحديد مصادر الخلل في حياته بين مكنونات النفس الداخلية وما يعانيه من ضغوطات خارجية، فإن القرآن الكريم بين أن مشكلة الإنسان الحقيقية هي ضميره عندما يفسد، ولذلك ركزت رسالة الإسلام الاجتماعية على هداية هذا الضمير وإصلاحه، وكان موضوع الأخلاق (الخير والشر) من صلب اهتمام الشريعة، فكان العمى الحقيقي في نظر القرآن الكريم هو عمى البصيرة لا عمى البصر، قال الله تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وقد استخدم القرآن لفظ القلب هنا للدلالة على ملكة التعقل والتبصر يعبر عنها دائماً بأفعال: يعقلون، تعقلون …
فالضمير بهذا المعنى أمانة إن وجدتها في نفسك فقد وجدت خيرا كثيرا ومتى كان عندك ضمير ينبض بالحياة، فاسجد لله شكراً لأن فساد الضمير قد يأتيك بمغريات وأشكال وألوان ظاهرها فيه الصلاح وباطنها من قبله التضليل والخداع . فتبيع ضميرك بزينة زائلة، أوبمبالغ زهيدة، وقد تبيع صاحبا أو أخا بسبب صداقة أو ميراث أو غيره، وقد تنسى قرابة، عندها و عندها فقط تكون من النذالة ما يفوق الوصف والتصديق .
إن المتأمل في أحوال المجتمع ودون الحاجة إلى كثير عناء يدرك اليوم أن فساد الضمائر سيما لدى النخب هو سر التردي الحاصل في كل المجالات وليس الجهل ولا قصور الفهم. وحتى أولئك الذين يفترض فيهم الانقياد والتأييد بسبب أميتهم وجهلهم ونقص معارفهم، من بسطاء الناس وعامتهم هم أيضاً لو صحت ضمائرهم ما استمروا في مواقفهم الخاطئة، لأن الإنسان البسيط يستدل على الحق بنور بصيرته، فيبدو له المشهد مظلماً أمام وعيه خاصة حين يتعلق الأمر بانتهاك الحقوق .
فلم يعد من المقبول عقلا ولا منطقا القول إن كل من اتُّهم بالفساد قد ضل طريق الحقيقة بسبب جهله لأن تضليل الوعي قد ينجح في صغائر الأمور وجزئياتها، أما في عظائم الأمور وكلياتها فالأمر لا محالة يتعلق بضمير فاسد أكثر مما يتعلق بوعي مزيف، بل إن فساد الضمير قد يصيب – في بعض مستوياته الخفية والدقيقة – من يظن نفسه وربما يظنه الناس صاحب صلاح وتقوى وعلم بالدين، فتجده يتجنب معرفة الحق لأنه يحسن الظن بنفسه إلى الحدّ الذي يشعر فيه أن الحقيقة ملك يمينه، أو ملك حزبه أو جماعته، ولو صحا ضميره بمنسوب قليل لأدرك أنه معني بقول الله تعالى في سورة البقرة :
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ )
وبالرجوع إلى الضمير الانتخابي أو لنقل الضمير الإنساني في المجال السياسي والانتخابي فلا نميل إلى القول مع بعض المتحفظين حد التشاؤم عن علاقة الضمير برجل السياسة، واعتبار الضمير مثل الدين ، حيث لا يجب إدخال الضمير في السياسة ، بل حري بنا أن نخاطب السياسي الإنسان و المتحزب الإنسان والمنتخب الإنسان، ونخاطب فيه الضمير الإنساني، فهو في أول الأمر وآخره إنسان قبل اكتساب أي صفة وقبل تأثيره في المجتمع المحيط به وتأثره به ، وبالتالي فإن استقامة سلوك الفرد والجماعة رهينة بصلاح الضمائر، وكل انحراف في السلوك علامة على فساد الضمائر. لكل ذلك :
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تحرص على على تطهيره ومحاسبته ومراقبته من أن تهوي به الريح في مكان سحيق .
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تتألم لفساد بدا مستشريا في جهة ما أو لدى شخص ما ولو كان ذا قربى .
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تنكر المنكر وتقول الحق ولو كان مرا .
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تضع مصلحة الوطن والمواطن.. نصب عينيك وتحرص على المال العام والمصلحة العامة
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن لا تسمح لنفسك بسلب حقوق غيرك وأنت تعلم أنها ليست لك .
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تدرك قدراتك وتعرف مسؤولياتك وواجباتك.
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تمارس دور الرقيب على أفعالك وتصرفاتك من غير مراقب .
أن تكون سياسيا ذا ضمير حي معناه أن تفكر في مصلحة الأجيال القادمة و الأجيال التي تليها .