الحدث بريس:المختار العيرج.
لم يدون السلطان مولاي عبد الرحمان غضبة له على عضو من حاشيته كما فعل حين غضب على حميدة بن علي السجعي، عامل وجدة و نائبه الذي كلفه بمهمة التفاوض مع ممثل فرنسا بالجزائر الكونت دولاروا في شأن معاهدة للا مغنية المبرمة في سنة 1845، و عكست رسالته الموجهة إلى بوسلهام بن علي في سنة 1261 ه تلك الغضبة حين قال له : ” وبعد، فإن حميدة بن علي عامل وجدة مع الطالب أحمد خضر قد خدعهما نائب عدو الدين فيما كلفناهما به من الوقوف معه على الحدود، و غرهما على عادته، و بذل الطمع حتى أدخل في الحد طرفا و أقرا من بلاد قبائل إيالتنا السعيدة لناحية بلاد الجزائر، و غرهما حتى طبع حميدة على الرسم الذي أتى به و نحن لم نرض ذلك، و لا نوافق على تسليم بلاد قبائل إيالتنا، فاعلم قونصو الفرنصيص بذلك لئلا يعتقد تسليمنا لما فعلوا خداعا و مكرا ” . ( 1 )
و من المعلوم أن المناطق التي قبل حميدة بن على تفويتها للفرنسيين كانت تابعة للمغرب منذ العهد السعدي، لذلك رفض السلطان التوقيع عليها و سجل ذلك في رسالته إلى بوسلهام حين قال : ” فلم نطبع و لا نفعل في المستقبل.. و إنما طبع عليه حميدة فقط، فاشرع و لا تأل جهدا في فسخ ما عقد الطماعان ساقطا الهمة.”
فلم تجد فرنسا حيال هذا الرفض سوى تخيير السلطان بين القبول بالاتفاقية أو الهجوم على وجدة و احتلالها، فصادق على البنود التي لا ضرر فيها على المغرب، و تجلى ذلك، في هذا المقطع من رسالته إلى بوسلهام ” و ها نحن جددنا نسخة من النسخة التي طبع عليها حميدة حرفا بحرف و حذفنا منها الفصول التي لم نأذن في ذكرها و لا الكلام فيها، و هو المجاورة في أمر التجارة و ما تعلق بها ..” و يصر السلطان مولاي عبد الرحمان في الأخير على التأكيد على موقفه من الحدود المغربية التي ظلت محددة بحدود المغرب مع الدولة العثمانية في الجزائر حين قال :” و زدنا أن أمضينا ما كان على حدود الترك المعلومة و نرفع الخلاف ” .
إن إيراد موقف السلطان مولاي عبد الرحمان الواضح من الاتفاقية و من عامله حميدة بن علي، كان الداعي إليه ما تواتر من وجود نسختين لهذه الاتفاقية، واحدة تتضمن 7 بنود و الأخرى تشتمل على 6 فقط، فهذه الأخيرة التي تعكس الموقف الرسمي هي التي وقع عليها السلطان، و الأخرى هي التي رفضها و وقعها فقط حميدة بن علي، و يسود الاعتقاد لدى العديد من الدارسين ان البند الذي حذفه السلطان كان هو البند السادس الذي ينص على ” أن الأرض التي هي قبلة قصور الفريقين في الصحراء لا ماء فيها فلا تحتاج للتحديد لكونها أرض فلاة “، فهذا البند غير متوفر في النسخة التي وجدت عند قاضي وجدة و في نسخة ثانية لدى كبير قصر زناكة بفجيج .
إن الحكم الشائع لدى العديد من الناس أن اتفاقية للا مغنية كانت مجحفة في حق المغرب نزعت منه ترابا ظل تحت سيادته منذ الدولة السعدية، و قد يكون مرد ذلك انتشار النسخة التي وقعها حميدة بن علي بين المهتمين العرب و الغربيين، على أساس أنها المعتمدة و الرسمية، و تم اغفال الثانية التي وقعها السلطان مولاي عبد الرحمان و تؤكد على الحدود الحقيقية للمغرب و هي التي كانت مع الأتراك، و تطرح كذلك الحسابات الذاتية لنائب السلطان التي لا تولي اعتبارا للمصلحة العامة و العليا للبلاد و لا لمواقف و تعليمات السلطان .
و السؤال الذي يثار في أمر اتفاقية للا مغنية لماذا اقترف حميدة بن علي جريرة الخيانة العظمى، و انساق لمطامع فرنسا، هل كان ذلك بسبب رشوة أم كان تحت التهديد مادام التوقيع قد تم بمنطقة تحت النفوذ الفرنسي، و هي بلدة للا مغنية، و يقال إنها أبرمت داخل ثكنة عسكرية أم في الأمر حسابات أخرى … إن هذه الخيانة ستتكرر مرة ثانية و بعد 124 عاما، و تحديدا في سنة 1969 حين أبرم المغرب اتفاقية حول الحدود مع الجزائر كان مهندسها الجنرال محمد أوفقير .
همت هذه الاتفاقية، التي سميت باتفاقية الأخوة و حسن الجوار، رسم الحدود بإدخال المناطق التي لم يدخل لها الأتراك، و لم تتنازل عليها اتفاقية للا مغنية، في نفوذ الجزائر التي أحرزت على استقلالها سنة 1962، بدأت المفاوضات بشأنها في 15 يناير 1969 بإيفران، و وقعت في 15 يونيو 1972 بالرباط و كان ممثل المغرب في اللجنة المشتركة لترسيم الحدود الجنرال أوفقير و المدبوح، و على الرغم من أن البند الثامن منها ينص على أن ” يجري العمل بهذه المعاهدة عند تبادل وثائق المصادقة “، فإن الجزائر لم تنتظر ذلك، إذ سارعت لنشرها بالجريدة الرسمية للجزائر العدد 48 بتاريخ 15 يونيو 1973، و شرعت في تنفيذها على أرض الواقع، و الأمثلة كثيرة : أحداث عش البرابر سنة 1984، صبخة الملح بالحجوي نواحي بوعنان، الجبل الاحمر، فجيج … كل ذلك و المصادقة على الاتفاقية لم تتحقق إلا بحلول 14 مايو 1989 و لم تنشر في الجريدة الرسمية المغربية سوى بتاريخ 22 يونيو 1992 … و هكذا يلاحظ أن المصادقة لم تتم إلا بعد 18 سنة من توقيعها الذي كان في 15 يونيو 1972، و كانت وفاة الجنرال محمد أوفقير في 16 غشت 1972، أي بعد شهرين من انقلابه الفاشل و رحيله عن هذا العالم، لتتضح فعلا الظروف الكارثية لهذه الاتفاقية الاستثنائية .
و لم تعرض على أنظار البرلمان المغربي، ربما بسبب ظروفها الملتبسة مما حذا ببعض الدارسين لأن يقرأوا الفصل 31 من دستوري 1970 و 1996 قراءة خاصة تذهب إلى ما يخوله للملك من صلاحية التوقيع على المعاهدات التي لا تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة . (2 )
و على الرغم من أن البند السابع من هذه الاتفاقية ينص على أن ” اتفق الطرفان المتعاقدان الساميان على أن مقتضيات هذه المعاهدة تسوي نهائيا قضايا الحدود بين المغرب و الجزائر ” فإن المادة الثامنة تقر كذلك بأن ” تبقى هذه المعاهدة سارية المفعول لمدة عشرين سنة ابتداء من تاريخ دخولها حيز التنفيذ، و تجدد تلقائيا لمدة عشرين سنة أخرى ما لم يصدر عن أحد الطرفين المتعاقدين إشعار كتابي إلى الطرف الآخر بالرغبة في إلغائها، و ذلك قبل انتهائها بسنة . ” و نهاية المدة كانت إما في 1989 اذا بدأنا الحساب ب 1969 أو 1992 إذا بدأناه 1972، بل إن حقبة أخرى مرت و لم يبد أي طرف رغبته في وضع حد لها على الرغم من أن الشروط التي تسطرها الجزائر لفتح الحدود تخرق في الصميم اتفاقية « الأخوة و حسن الجوار » و تضعها موقع تساؤل و تفرض إعادة النظر فيها .
و يطرح في حالة أوفقير كذلك التساؤل حول أسباب إقدامه على هذا الفعل الشنيع ؟
يرجع جل من تناولوا هذا الموضوع لمقايضة كان أوفقير بصدد انضاج ظروفها : التراب الوطني مقابل دعم و مباركة الانقلاب الذي كان يبيت له، و هذا الرأي يبدو لي، كواحد من سكان الشريط الحدودي و كفرد من أسرة من الأسر المشتركة بين الدولتين، سببا من الأسباب، لكنه ليس الوحيد يقينا .. أوفقير ينحدر من بلدة عين الشعير بإقليم فجيج، ترعرعت أسرته ببودنيب، حلت بها مع حلول الاستعمار سنة 1908 و مازالت أطلال دار الباشا أوفقير قائمة بها إلى اليوم، و بها دفن عقب مماته في انقلابه الفاشل سنة 1972، و مازال الكثير من سكان الشريط الحدودي يتساءلون لماذا اختير لرفاته تراب بودنيب و لم يقع الاختيار على بلدته الأصلية عين الشعير ؟ (3 )
و لأن أوفقير كان الرجل القوي بالرباط و المغرب عموما نصب أخويه مولاي المهدي قائدا على بودنيب، و مولاي الحسن قائدا على بوعنان، فكانا رجلين يستمدان نفوذهما من نفوذه، يصولان و يجولان في المنطقة، يحكمانها بلا منازع عدا وجود قيادة دوي منيع على مقربة من قيادة بودنيب التي يشرف عليها المهدي أوفقير، هذه القيادة أحدثت في سنة 1957 بأرفود، و أوكل إليها أمر إدارة شؤون السكان المنحدرين من المناطق التي لم تحتلها الدولة العثمانية، أي المناطق التي ستصبح في عهد الاستعمار و ما بعده مقتطعة من المغرب و أدرجتها اتفاقية الأخوة و حسن الجوار ضمن التراب الجزائري .
كان قائد قيادة دوي منيع أنذاك هو الصديق صديقي، و كانت له حظوة خاصة بالديوان الملكي، و كان أحد المكلفين بمهمة فيه المحفوظي خليفة المنحدر من مدينة القنادسة، يتوسط لقائد دوي منيع و يعرض ما استجد من أحداث على أعلى سلطة في البلاد .. فكان إخوان أفقير يتضايقون من وجود هذه القيادة معهم و في عقر دارهم، و قائدها و المواطنون الخاضعون لها من صنف لا يمكن أبدا ترويضه و إخضاعه لمشيئتهم، فظلوا يتوجسون من وجودها لا سيما و أن سبب تنقيلها من أرفود إلى بودنيب كان بدافع أمني، فهذه المنطقة كانت وقتئذ بؤرة خطيرة، فسدت قيادة دوي منيع هذه الثغرة الأمنية، و هو ما اعتبر انتقاصا من كفاءة قيادتين لآل أفقير بالمنطقة.. و مما زاد الطين بلة أن الجنرال أوفقير حسب رواية مستقاة من مصادر مختلفة، قد اقترح على الملك الحسن الثاني قبيل التهييء لهذه المعاهدة، إزالة هذه القيادة كإشارة حسن نية للجزائريين، غير أن العاهل المغربي أجابه حسب نفس المصادر “بأن بذرة زرعها محمد الخامس رحمه الله لا يمكن للحسن الثاني أن يقتلعها “، فكان تنازل أوفقير عن تراب قبائل قيادة دوي منيع طريقة أوفقيرية في التصفية و القتل المعنوي، و انتقاما مازالت انعكاساته مخيمة على السكان إلى اليوم . (4 )
إن من شأن استرجاع هذه المنطقة أن يهمش جهويا و مركزيا نفوذ آل أوفقير، و يحجب المنطقة التي يتواجدون بها، فكان تسطير اتفاقية الحدود بالشكل الذي جاءت عليه يصب في الأهداف المرسومة في كل الاتجاهات، و مما يعزز هذا الرأي تهميش الاتفاقية للمعنيين بتسطير الحدود، و هم سكان المنطقة الشاسعة التي لم يمتد لها النفوذ التركي، فلم يستشاروا في هذا الإجراء الذي شتت أسرهم بين دولتين، و حرمهم من الكثير من حقوقهم المادية و المعنوية . (5 )
و بذلك يتضح أن تفريط أوفقير في التراب الوطني، تماما كشبيهه حميدة بن علي، له أسبابه المحلية و الجهوية كذلك .. في حالة أوفقير تيسر كشف بعضها و في حالة حميدة بن على مازال هذا الجزء مطمورا في زوايا مظلمة .
الهوامش…
( 1) ابن زيدان عبد الرحمان بن محمد السجلماسي ” اتحاف اعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس “.
(2) المادة 31 من دستور 1970 ” يوقع الملك المعاهدات و يصادق عليها غير أنه لا يصادق على المعاهدات التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة الا بعد موافقة مجلس النواب .
تقع المصادقة على المعاهدات التي يمكن أن تكون متفقة مع نصوص الدستور و ذلك باتباع المسطرة المنصوص عليها فيما يرجع لتعديله ” .
المادة 31 من دستور 1996 ” يوقع الملك المعاهدات و يصادق عليها غير أنه لا يصادق على المعاهدات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة إلا بعد الموافقة عليها بقانون “.
( 3) ووري جثمان أوفقير الثرى في مكان يتوسط القصر الكبير ( بودنيب ) و قصر الطاوس، و أقيم عليه ضريح متواضع ..
( 4) جالست في بودنيب شخصين من أصدقاء القائد الصديق و المهدي أوفقير، هما الحاج البوكايسي و لمراني محمد العربي، فنقلا لي الأجواء المشحونة المليئة بعبارة اللمز و الغمز التي كانت تطبع اجتماعات القائدين، ففي الوقت الذي كان المهدي أوفقير يفتخر بأخيه الجنرال، كان القائد الصديق يذكر حظوته لدى ملك البلاد، و يروي بزهو كبير بعض لقاءاته به، كيف شرفه جلالة الملك الحسن الثاني حين نزع عنه سلهامة و ووضعه فوق كتفيه، و دأب ملوك الدولة العلوية على منح سلاهيمهم لرعاياهم لا أخذها منهم .
( 5 ) بعد استرجاع الصحراء المغربية، حجبت مدينة العيون و الداخلة و نخبها مدنا و نخبا أخرى، طانطان، كلميم، أسا … كما أن منطقة بشار في فترة للاستعمار كانت موازية لتافيلالت، و ظلت مناجم القنادسة تستقبل اليد العاملة من منطقة تافيلالت .