ربما قد نسهو بعض الوقت ولكن ليس كل الوقت .. وقد ينصت الفرد الواحد منا لجده وجدته وهما يحكيان ما وقع بصحراء الجنوب الشرقي للمغرب من أحداث أليمة … والجد والجدة إذ يقومان بذلك ليس لأنهما يريدان سرد الحكايات والقصص المسلية على حفدتهم عن ما وقع بفكيك وبودنيب وتندرارة والضهرة وأنوال وتوات والقنادسة ووجدة ومدغرة … فذلك الفعل منهم تنبيه كما نقول بالدارجة المغربية ” باش نجمعو الوقفة أو نحضيو راسنا من ألاعيب المتربصين بالحدود المغربية ” وأخذ العبرة من التاريخ في الحاضر والمستقبل هذا شفهيا ؛ أما أن تتلقى ذلك من جدك مكتوبا وموثقا فذلك أمر آخر لأنه يكتب لك ملكا حيا ، لا يطاله المحو ولا سبيل إلى تزييف حقائقه، فهو لحرصه عليك يعطيك مناعة ضد الفيروسات والميكروبات التي تريد اقتحام جسمك وينبهك بشكل مادي للخطر المحدق بك ” باش تكون ديما على بال ، لأن هذه صفة الرجال …”
الذاكرة التاريخية الجماعية.
إن الحديث عن الذاكرة التاريخية الوطنية الجماعية أمر بالغ الأهمية وتقديم وصف لمشاهدها زمنا ومكانا وأشخاصا ليس بمقدور الفرد الواحد القيام به إذ طاقة له عليه مهما أوتي من رصيد وثائقي وثقافي ومعرفي تعززه فطنة و قوة تذكر للتفاصيل والحيثيات ،
لذلك اهتم الكثير من أصولنا بكتابة ونقش وترسيخ وقائع التاريخ بمختلف الصيغ .. في مناطق المغرب وهم واعون بما يفعلون .. كما كان دأبهم إذ يعملون بشكل جماعي، إلا ناذرا حينما يتعلق الأمر بلحظة تأمل وتدبير .
إن الذاكرة التاريخية للمغرب ذاكرة حية ومتجددة وهي ملك جماعي لكل المغاربة كاللغة باعتبارها ملك جماعي لذلك يصبح من العسير الادعاء بفردانية امتلاك المعرفة بكل مشاهدها، حتى لدى المؤرخ والدارس للتاريخ .. المتمكن من أدواته المعرفية والمنهجية لابد له أن يستعين بغيره ومن اللازم عليه كذلك أن يطلع على المصادر بمختلف أنواعها العربية والأمازيغية، والأجنبية وينظر للآثار المادية في الواقع، ويرنو للرواية الشفوية ( الشفهية ) ويستشف حقائق الواقع النفسي والاجتماعي الذي خلفته تلك الأحداث لدى الأصول في زمنهم .
الوثيقة التاريخية ومقاومة الاستعمار الفرنسي.
فحين يتوفر الباحث على وثيقة تاريخية تشكل جزءً من الذاكرة الجماعية للمغاربة وتؤرخ لفترة “مقاومة ” للمستعمر الفرنسي فهذا يعني أنه لا يملك الحقيقة وإنما له زاوية نظر فقط، وليس زاوية 360 درجة، لأن ما يسمح به حقل الرؤية لديه بشكل ما، في مكان ما، في وضعية ما .. بطريقة ما يسرد من خلالها ما له صلة بها فهو بالتالي لايملك جميع القدرات القرائية والمعلومات الكافية ، والظروف للإحاطة بمضمونها والحديث عنها ولذلك تصبح الوثيقة ملكا وثائقيا جماعيا يشترك فيه كل الباحثين والطلبة والمهتمين بتاريخ المغرب يدرسونها وفق مناهج علمية محددة …
ودون أن نطيل على القاريء نترك جدنا الشيخ الحي بعلمه، المجاهد سيدي محمد العربي الدرقاوي المدغري رحمه الله تعالى ليحكي عبر رسالته التي دون بها ذلك الحدث البارز وقت اقتحام -” طاغية الروم ” – كما يسميه لصحراء الجنوب الشرقي للمغرب، وكيف كان يحث المجاهدين على استنفار الأفراد والقبائل كلها لمحاربته مقدما صفا واقعيا لأحداث أليمة وفضائع جسيمة ارتكبها العدو الجشع ظلما وعدوانا .
يقول الشيخ رضي الله عنه في رسالته الموجهة للمجاهدين ” … الأخوين في الله الشريفين المجيدين الأصيلين الفقيهين النبيهين المجدين في جهاد أنفسهنا وفي جهاد عدو ربهما “سيدي مولاي عبد الله بن هاشم وسيدي مولاي احمد بن الغالي ” بعد سلامنا عليكما سلاما تاما شاملا عاما أعلمكما علمكما الله خيرا ووقاكما ضيرا، أن الذي تيقناه من ثقات العدول من إخواننا القادمين علينا من بلاد ” كير” أن “طاغية الروم ” توجهت لبلاد المسلمين توجها يقينيا حتى وصلت إلى بلاد ” تندرر” وهي موضع بوسط ” الدهر ” بعد ما سبقت خيل قومه فاستاقت ما وجدت من أموال المسلمين ، وامتدت أيديهم في عامة المؤمنين حتى أكلوا الأعراب الذين في عهد مولانا الأمير أيده الله وهم ” ابن كيل ” وأولاد الشيخ ” وغيرهم ، ولما ركضت خيولهم في مهامه ” الدهرة ”
فر كل من بها من الأعراب وغيرهم قاصدين رؤوس الجبال ليتحصنوا من العدو دمره الله حتى أن منهم من بقي راحلا ثلاثة أيام بلياليها ولم يبت ولم يأكل ولم يشرب خوفا مما عاين وسمع ، وكان من قدر الله أن أدركوا ” دوارا لأولاد سيدي الشيخ ” راحلا فغاروا عليهم واقتتلوا قتالا شديدا حتى أتوا على جميعهم ، وكان من قتل منهم رئيسهم وكبيرهم “سيدي الحاج معمر” رحمة على من قتل من المسلمين في جهاد الله رب العالمين، وهذا كله في ” مهل حجة الحرام وعساكر العدو الكافر مقيمة بمحلها المذكور ثم بعد العيد ارتحلت للموضع المسمى ب”الواسعة” و”الحميدية” بينه وبين أنوال نصف مرحلة، هذا ماتيقناه من الخبر الصحيح فنطلب منكما أن تقدما بكتابنا هذا على كل واحد واحد مررتما عليه في سفركما هذا يقول لاإله إلا الله سيدنا محمد رسول الله عموما ثم خصوصا “أولاد مولانا المنصور” بالله ثم إخوانه ثم عامله” القائد علي الهواري” ثم سائر ساداتنا الأشراف أينما حلوا ونزلوا، ثم سائر المسلمين أجمعين عجما وغربا صحرة وغربا جوفا وقبلة وأن تستنهضا الجميع لجهاد الكفرة فقد قويت فينا أطماع الخبيث وإلينا يساق الحديث ، نرجوا الله تعالى أن يرد كيدهم في نحورهم حتى يرجعوا بخفي حنين خائبين خاسرين ورد الله الذين كفروا بغيضهم الآية ، وآمراهم
أن يتركوا كل نزاع وخوض كان بينهم ويستعدوا العدة والعدد ويتحلوا بالقوة والجلد ويكونوا يدا واحدة عليه فإن الله تعالى ناصر دينه وممد أهل الإيمان بمعونته فأمر العدو ليس بهين، وقتاله على كل مسلم متعين قال تعالى “ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار الآية وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة الآية ولا تمكن لنا إلا بعد إصلاح ذات البين واجتماع كلمة المسلمين ونزع ما في صدورهم من الغل والبين فبهذا يضمحل أمره وينظم إلى الإسلام شمله والله تعالى يؤيد بنصره المؤمنين ويخذل بعدله الكافرين والسلام ”
إن هذه الرسالة وغيرها من الوثائق العديدة والتي ستظهر للعلن تضم الكثير من الحقائق وتحيل على مجموعة من المناطق، والتي يستحيل تجاهلها حتى يعلم من يعتدي على حق المغاربة في صحرائهم الجنوبية الشرقية أن حق المغرب وتضحيات رجاله الذي يحاول جحوده “أو تجاهله الكثيرون من الأشقاء العرب عنوة” من عندية أنفسهم .. موثق بالدلائل المادية لا يمكن محوه بتقادم السنين والأعوام … فإن دافع المغاربة وضحوا من أجل وطنهم و أشقائهم في الجوار بالغالي والنفيس فهذا “لايعني أن الذي ساعدك في محنتك أن تهضم حقه وتبالغ في السفه عليه ، وقلب الحقائق وتزوير التاريخ الذي يستحيل تزويره .